ارشيف من : 2005-2008

كيف حاول الحريري العائد من الاحتجاب القسري أن ينظم عملية الفرار من الحوار؟

كيف حاول الحريري العائد من الاحتجاب القسري أن ينظم عملية الفرار من الحوار؟

سياسة "المماطلة" و"التهرب" التي يبديها فريق السلطة مع دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى طاولة الحوار الوطني المنصوبة في الطابق الثالث من مجلس النواب، ليست جديدة، فهي "جزء من "فلسفة" هذا الفريق تجاه مرحلة الفراغ الرئاسي، لإدامتها، وحلقة من حلقات ادائه السياسي للحيلولة دون تغيير واقع الحال غير الطبيعي، حيث هم يمسكون بزمام الحكم ويرفضون الإقرار بواقع أن ثمة فريقا أساسيا في البلاد يرفع مطلب حق المشاركة في هذا الحكم، كسبيل لا بد منه للخروج من نفق الأزمة.
وجذور هذه السياسة تضرب بعيداً في "تربة الأزمة اللبنانية وتعود الى مرحلة ما قبل حرب تموز، وعلى وجه التحديد نعود إلى "اتفاق الرياض" الشهير الذي عقده موفد حركة "أمل" و"حزب الله" مع النائب سعد الدين الحريري، وكان يومها اتفاقاً مكتوباً جوهره التفاهم على كيفية ادارة الحكم وشؤون البلاد على نحو يزيل الغبن اللاحق بفريق أساسي فيهما، ويحول دون تدهور الأمور، وتحولها إلى أزمة حقيقية.
بيد أن السياسة نفسها، هي التي أملت على الحريري التحلل من هذا الاتفاق والنكث به.
وبعد اندلاع الأزمة الأخيرة منذ ما يقرب من عام وخمسة أشهر، برز كثير من المناسبات والمحطات التي غادر فيها هذا الفريق التفاهمات، وتخلى عن كثير من التعهدات التي أعطاها.
ولعلّ المثال الأبرز الذي ما زال طرياً في الذاكرة هو جولة اللقاءات الـ12 التي عقدت بين رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب الحريري في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، وبشهادة الجميع، تحقق تقدم كبير في بحث كل القضايا الخلافية وفي الجولة الأخيرة غادر الحريري الاجتماع ليعطي جواباً حاسماً يمهد لإعلان التفاهم، لكنه خرج ولم يعد واستطراداً لم يرسل الجواب.
ومثال آخر، هو اللقاءات المتعددة التي جرت قبل فترة قصيرة من نهاية ولاية الرئيس اميل لحود بين بري والحريري برعاية وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير والتي وصلت بشهادة الفرنسيين لاحقاً، إلى حد الاتفاق، ولكن الحريري أخلّ بكل التعهدات التي أطلقها، وغادر كوشنير بعدها ليحمل الموالاة مسؤولية بلوغ مرحلة الفراغ الرئاسي، فكان نصيبه حملة اعلامية من هذا الفريق تتهمه فيها بالانحياز.
وفي السجل نفسه هناك محطة اخرى مشابهة حيث جمع الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى مجدداً بري والحريري، وقيل كلام كثير عن احراز تقدم، لكن خلافات عاصفة في داخل فريق السلطة أفضت إلى تبديد الايجابيات التي برزت وأدت إلى اطالة أمد الفراغ الرئاسي والى تمديد عمر الأزمة ومعاناة اللبنانيين.
ولا ريب أن فريق السلطة، يحاول الآن مواجهة دعوة الرئيس بري إلى طاولة الحوار، والاحاطة بالفرصة التي تمنحها هذه الدعوة للحل بالأسلوب الملتوي نفسه.
فقبل أكثر من شهرين، وبالتحديد بعد 13 شباط الماضي بوقت قصير، غاب النائب الحريري عن السمع والبصر، وكان غيابه ملتبساً ومثار تساؤلات عدة، وكان جلياً لأي مراقب سياسي، أن أمر الغياب المفاجئ هو نتيجة رغبة اميركية ـ سعودية، غايتها اعطاء المجال لفؤاد السنيورة لكي يكون هو في الواجهة، ولإبقاء حالة "الستاتيكو" الحالية قائمة إلى أجل غير مسمى، مقدراً لهذا الغياب أن يطول، لكن ثمة استحقاقات داهمة أملت عليه العودة إلى الساحة وأبرزها:
ـ أن دعوة الرئيس بري إلى طاولة الحوار صارت أمراً ملحاً لا يمكن التهرب منه أكثر.
ـ إن الحملة المنسقة على الرئيس بري لمحاصرته بتهمة تعطيل مجلس النواب ومنع انتخاب الرئيس، قد استنفدت غرضها وبلغت غايتها، لا سيما بعدما شرع بري أبواب المجلس في 22 نيسان الماضي.
ـ أن ثمة تطوراً جديداً طرأ لدى فريق 14 آذار، وهو إطلاق النائب وليد جنبلاط بعض المواقف "المتمايزة" عن توجهات هذا الفريق، ولا سيما دعوته إلى التجاوب مع دعوة الرئيس بري للحوار، اضافة إلى بروز معلومات تشير إلى أن جنبلاط أرسل اشارات معينة إلى دمشق من شأنها ان تمهد لتطور لاحقاً في هذا المجال.
ـ بادر الرئيس بري إلى تحديد موعد لجلسة انتخاب الرئيس في 13 أيار الجاري، رابطاً الانتخاب بالتقدم الذي يمكن أن يحرز في جلسة الحوار الوطني، وبناء على هذه المعطيات عاد الحريري، لأن السنيورة لم يعد بمقدوره، ومن موقعه، التعامل مع كل هذه الاستحقاقات، واستطراداً عاد لكي ينظم عملية الهروب من الدعوة إلى الحوار، ولكي يعيد التماسك المفقود لفريق السلطة بعد بروز تباينات جوهرية أو داخله، ولكي يعطي "جرعة" دعم جديدة لهذا الفريق الذي بدأ مأزقه يزداد نتيجة اخفاقه في انتخاب رئيس جديد، وفي عجزه عن تقديم بديل لدعوة الرئيس بري للحوار، من شأنه أن  يعيد تحريك الحالة السياسية الراكدة، ويعطي أملاً جديداً بإمكان انضاج حل للأزمة خصوصاً بعد صدور تصريحات تتوقع اطالة أمدها إلى العام المقبل، ومنها تصريح الرئيس المصري حسني مبارك.
وبناء على هذا التوجه العام عاد الحريري ليشرع في "حملة" اتصالات، واطلاق جملة تصريحات جوهرها التناقض والتباين، تجاه مواضيع الدعوة إلى الحوار، حيث كان له أمام كل مقام سياسي أو روحي زاره، مقال مختلف وملتبس يناقض إلى حد بعيد المقال أمام المقام الآخر.
الأمر يعود بطبيعة الحال إلى شخصية هذا الرجل المربكة وغير الناضجة أصلاً، ولكن ثمة غايات ومعطيات أخرى أملت على الحريري هذا السلوك والأداء المربك، في العنوان الأساس لحركته وكلمة السر المعطاة له، هي عدم التجاوب مع دعوة بري وعدم الجلوس حول طاولة الحوار الوطني مهما كلف الأمر.
وعلى هذا الأساس كان التوجه العام لدى فريق الـ14 شباط، هو في تفويض النائب الحريري عقد جلسات ثنائية مع الرئيس بري، مع الإشارة إلى رغبة هذا الفريق في الانفتاح على الحوار، شرط أن يكون هدف الحوار انتخاب الرئيس. كان واضحاً أن العقل "التآمري" لهذا الفريق توصل إلى هذا القرار لكي يحقق جملة غابات ومقاصد أبرزها:
1 ـ أن يتهرب من الرد المباشر على دعوة بري إلى طاولة الحوار، وخصوصاً أنه كان يدرك سلفاً موقف بري من الأمر كله.
2 ـ أن يحدث شرخاً في داخل المعارضة المشهود لها بالتماسك من خلال الإيحاء أن التفويض الذي أعطته المعارضة سابقاً لأحد أركانها، رئيس التيار الوطني الحر النائب العماد ميشال عون قد سحب منه.
3 ـ استدراج رد فعل من المعارضة ومن شخصيات أخرى، تغرق أمر الدعوة إلى الحوار في تفاصيل ومتاهات شتى.
4 ـ "فرملة" الانعطافة السياسية التي قيل إن النائب جنبلاط بدأها، وهو في المناسبة قول يحتاج إلى الكثير من التدقيق والاختبار قبل الرهان والبناء عليه.
وبالاجمال كان واضحاً أن رد الموالاة على دعوة بري غايته إجهاض هجوم بري السياسي وتحويل مبادرته إلى أزمة تنفجر بين يديه، وقبل كل ذلك كان رأس هذا الفريق (اذا صح التعبير) وهو النائب الحريري  ينظم عملية هروبه من البحث جدياً بقانون انتخابات جديد، وهو استحقاق داهم، سيكون عاجلاً أم آجلاً أحد المواضيع المستقبلية البالغة الأهمية، وجزءاً لا يتجزأ من صيغة أي حل سياسي مستقبلي.
وبالطبع ثمة وراء الكواليس من يتحدث بكلام آخر فحواه أن الحريري ومن وراءه، وبالتحديد السعودية، ارادت من خلال هذا "الإصرار" على انتخاب الرئيس من دون اعتبار للبندين الآخرين اللذين نصت عليهما المبادرة العربية، ويشكلان مطلباً أساسياً من مطالب المعارضة وهما حكومة الوحدة الوطنية ووضع قانون انتخاب جديد، أرادت جس نبض الساحة اللبنانية وحقيقة مواقف المعارضة، وخصوصاً بعدما سرى كلام كثير عن أن سوريا باتت في وضع المرن والمجبر على الضغط على حلفائه في المعارضة الوطنية لتقديم تنازلات.
وفي كل الأحوال يبدو أن عملية "التشاطر" وتنظيم عملية "الفرار" من استحقاق الحوار، لم تكن موفقة بالقدر الذي شاءه فريق السلطة، وذلك لثلاثة اعتبارات أساسية:
ـ أن الرئيس بري بدا أكثر "شطارة" فرفض لعبة "التشاطر" ورد بما يوحي أنه لا يوصد الباب أمام طلب الحريري موعداً للاجتماع به، ورد بأن بيان لقاء 14 آذار لا يتضمن جواباً قاطعاً على دعوته للحوار، وأنه ما زال في الانتظار.
ـ أن التناقض والتباين داخل هذا الفريق بقي موجوداً حيال الدعوة إلى الحوار وحيال قضايا أخرى.
ـ أن هذا الفريق برهن للمرة الألف أن قراره ليس بيده، وأنه ليس جاهزاً بعد للدخول جدياً في  تسوية تخرج البلاد من أزمتها، وأنه ما زال يراهن على تطورات في ظهر الغيب، ولكي يتهرب من الحوار ويفر من عملية المشاركة في السلطة والقرار، ومع ذلك فثمة من لا يزال يرى بأن هذا الفريق سيعود عاجلاً أم آجلاً إلى طاولة الحوار، وسيتراجع عن موقفه هذا كما تراجع في السابق عن كل مواقفه وتنازل عن كثير مما كان يروج له على أنه ثوابت.
ابراهيم صالح
الانتقاد/ العدد1265 ـ 2 ايار/ مايو 2008

2008-05-01