ارشيف من : 2005-2008
الطبيعة والغرب على ماينمار
غير بعيد عن منطقة التسونامي الذي ضرب إندونيسيا وعدداً من بلدان جنوب آسيا، قبل سنوات، وغير بعيد عن بنغلاديش التي ضربها الإعصار "سيدر" قبل أشهر، كان الدور هذه المرة لماينامار التي ضربها الإعصار "نرجس" بعنف أعاد إلى الذاكرة تلك الأعاصير التي ضربت بنغلاديش أيضاً، عام 1991، وأوقعت أكثر من 140 ألف قتيل. الخسائر البشرية التي نجمت عن الإعصار "نرجس" وصلت، وفق التقديرات، إلى أكثر من ستين ألفاً بين قتيل ومفقود. رياح بسرعات تراوحت بين 190 و240 كلم في الساعة، تصاحبها أمواج بارتفاع ثلاثة أمتار ونصف اجتاحت تلك المناطق وحولتها إلى ركام. قرى بأكملها اختفت من الوجود، وأكثر من 10 آلاف قتيل في مدينة بوغالاي وحدها. عشرات الألوف من المنازل المدمرة، وطرقات مقطوعة بفعل طوفان المياه أو الأشجار التي اقتلعتها الرياح، ومئات الألوف وربما الملايين من السكان باتوا بلا مأوى على ما أفادت به مصادر الأمم المتحدة. شبكات الكهرباء والماء تعرضت لدمار شبه كامل، والحاجة ماسة لمياه الشرب، وهنالك خوف من تفشي الأوبئة، خصوصاً في الأماكن التي يصعب الوصول إليها والتي عزلتها الكارثة.
لكن الكارثة الناجمة عن غضب الطبيعة ليست كل ما تعاني منه ماينمار. هنالك أيضاً النظام الشمولي الديكتاتوري وحكم الجنرالات، على ما تردده وسائل الإعلام الغربية وتوابعها. أو على الأصح، هنالك أيضاً عدم رضا الغرب عن سياسات النظام الحاكم في ماينمار، على أساس أن أنظمة شمولية وديكتاتورية وعسكرية لا تحصى يعج بها عالم اليوم في ظل الرضا الأميركي والغربي عن سياسات تلك الأنظمة. المهم أن الكارثة الطبيعية شكلت مناسبة لشن حملة دعائية مركزة من قبل الأوساط الغربية على ما يسمونه بـ"الطغمة" الحاكمة في ماينمار. لكن الهجوم الإعلامي جاء "مطعماً" بالحديث عن المساعدات. والمساعدات سخية فعلاً بالقياس إلى حجم الكارثة. خبراء كوارث من الأمم المتحدة، وبعثات لتقويم الأضرار من اليونيسيف، وأرفع وسام أميركي تم منحه لزعيمة المعارضة في ماينمار، يضاف إليه مبلغ 250 ألف دولار من الولايات المتحدة. يظهر الرقم في الصحافة المكتوبة مع جميع أصفاره (250000 لإعطائه مزيداً من الهيبة)، مع أنه مبلغ يدفعه البعض ثمناً لوجبة عشاء واحدة في عالم اليوم، في ظل استشراء العنترية المالية والهبوط الحثيث لقيمة الدولار. 200000 يورو من فرنسا. أما اليابان فإن الدقة في كرمها هي ما يلفت الانتباه: 266364 دولارا! ترتفع الأرقام شيئاً فشيئاً بالتوازي مع انخفاض الثقل السياسي للدولة المعنية: 50000 يورو من ألمانيا، و1000000 يورو من هولندا، و1300000 يورو من النروج، و2000000 يورو من الاتحاد الأوروبي مخصصة حصرياً لإيواء المنكوبين ولتزويدهم بمياه الشرب. وهنا نشاهد على شاشة التلفزة صوراً لقناني المياه الأوروبية، ونتساءل عن كمية العطش التي يمكن لـ مليون قنينة (من الحجم الصغير) أن تبددها عند عدة ملايين من السكان الذين باتوا بلا مأوى؟ ونتساءل أيضاً عن كمية الفرح التي تسبب بها الإعصار الكارثي لشركة الماء التي فازت ببيع مائها إلى الاتحاد الأوروبي.
خيار المساعدات والمساعدات العينية ليس مجرداً إذاً عن المصالح الخاصة وعن الأهداف السياسية. بعض الغربيين استفادوا من المناسبة بأن جعلوا من المساعدات وسيلة لاختراق ماينمار و"إذلال" جنرالاتها. لورا، زوجة الرئيس بوش ألحت على الطغمة الحاكمة أن تقبل المساعدة واشترطت، لرفع قيمتها، موافقة الطغمة على السماح لفريق خبراء أميركيين في مجال الأعاصير (أي نوع من الأعاصير) بالدخول إلى ماينمار. أما وزير الخارجية الفرنسي، برنار كوشنير، فأعرب عن استعداده للذهاب شخصياً إلى ماينمار للإشراف على توزيع المساعدة الفرنسية على الشعب، في مسعى اعتمده الأميركيون أيضاً حرصاً منهم على عدم استفادة الطغمة من المساعدات. وبالطبع، تمت الاستفادة من الكارثة في تسليط الضوء على عدم أهلية النظام الحاكم: ردود فعل بطيئة من قبل الحكومة، عدد قليل من الجنود يرفعون الركام في الشوارع، ما عدا الشوارع والمفترقات الرئيسية، رهبان ومواطنون عاديون يرفعون الركام بأدوات بسيطة، عدم مبادرة الحكومة إلى إخطار المواطنين مسبقاً بالإعصار، وضرورة أن تشتري ماينمار "الفقيرة" (وهو أمر يركز عليه الإعلام الغربي) من أحد البلدان المتقدمة تكنولوجياً جهازاً للإنذار المبكر بمليارات الدولارات، على أن يكون شبيها بذلك الجهاز الذي لم يمنع الإعصار "كاترينا" من تدمير السواحل الجنوبية للولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات. وحتى إصرار "الطغمة" الحاكمة، برغم الإعصار، على إجراء الاستفتاء المقرر السبت القادم على دستور يسمح بالتعددية الحزبية، قابلته أجهزة الإعلام الغربية باستياء واضح. ولعلها تضم صوتها هنا إلى أصوات الكثيرين من سكان ماينمار الذين قالوا عالياً: "نريد ماءً لا ديموقراطية". ماء للشرب، طبعاً، لأن ماء الطبيعة الغاضبة طوفان جديد في ماينمار اليوم. وغداً؟ الجواب تقدمه الكارثة البيئية التي أنتجها نمط العيش الأميركي الذي يشن الرئيس بوش حروبه للمحافظة عليه.
عقيل الشيخ حسين
الانتقاد/ العدد1266 ـ 9 ايار/ مايو 2008