ارشيف من : 2005-2008

الشاب الذي تنقل بين غيفارا والحسين: عماد مغنية الذي عرفته... والذي كان!

الشاب الذي تنقل بين غيفارا والحسين: عماد مغنية الذي عرفته... والذي كان!

يرتبط بعلاقة عشق قديمة مع بنت ـ جبيل، بل لأنه دخل الى حياته الاستثنائية مقاوماً معترفاً به وطنياً وعربياً وإسلامياً ودولياً من باب بنت جبيل.‏

كان ذلك عام .1977‏

المكان: ثانوية بنت جبيل التي استحالت بفعل الحرب الاسرائيلية آنذاك الى قاعدة الشهيد ابراهيم حطيط.‏

كان عماد شاباً في اول طلعته تضحك الحياة في عينيه. كان صوته الجميل ينتقل خافتاً في اختيار مقاطع من الاغاني السياسية التي ينشدها مارسيل خليفة او الشيخ إمام.‏

كان صوته يخرج صلباً ومستقيماً وأنيقاً عندما يصل الى اغنية: «غيفارا مات...».‏

كان يبتسم بثقة ويقاطع نفسه بالقول: غيفارا لن يموت!‏

ثم كان عماد يغادرنا وتذهب عيناه الى امكنة دافئة مسكونة بلغة القرآن العربية، رغم ان المكان كان «ماركسياً حتى العظم»، ليبحث عن اصل المقاومة وجذوتها في بلادنا.‏

كان في كل لحظة ننفرد بها عن الآخرين يوشوش في اذني قائلاً: اسمع يا شاعر ما يقوله الإمام الحسين «والله لن أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولن أقر إقرار العبيد». ويتابع اسمع: «إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خديني». ويمضي عماد يوشوش في اذني السيرة الحسينية التي كان قد صمم على اختيار طريقها.‏

كان منجذباً الى السكوت والى اعطاء الحرية لعينيه لتسعير مشهد اليوم العاشر من محرم. كان يدرس حركة وسكنة الاشخاص على مسرح ذلك اليوم، وكان يتعلم صناعة الأبطال وصناعة التاريخ!‏

بعد قليل من السنوات استحوذت على عماد مغنية كلمة سر واحدة: يا حسين!‏

في سيرة عماد مغنية، والى الذين لا يعرفون عن غير قصد من اللبنانيين، نذكرهم بأن إسرائيل اجتاحت لبنان عام ,1982 وان بيروت التي يغتصبون ساحة شهدائها صمدت (72) يوماً، ولم تسقط. بل ان المقاومة الفلسطينية سقطت آنذاك في امتحان الحصار وخرجت من بيروت، وان النظام العربي سقط في الامتحان وسلم ثاني عاصمة عربية بعد القدس، وان النظام اللبناني سقط في التجربة واستباحت ميليشياته بيروت واغتالت صبرا وشاتيلا في مجزرة موصوفة بمباركة اسرائيلية.‏

اصبحنا وحدنا وجهاً لوجه امام الجيش الاسرائيلي الذي لم نتسبب في اجتياحه للبنان، ولسنا نحن بل النظام اللبناني هو من وقّع اتفاق القاهرة (تحت مظلة عربية)، وأعطى الجنوب من الناقورة الى العرقوب مساحة لحركة السلاح الفلسطيني، دون أخذ رأينا.‏

اصبحنا وجهاً لوجه امام اسرائيل، واذ ذاك كان عماد ومثله نحن الافراد وما تبقى من حالة القوى السياسية نعيد ترميم أنفسنا.‏

كنا نشحذ (نستعطي) الإمكانات والسلاح والرصاص، وكنا نحتاج الى عمل صاعق وجاذب لمشروع المقاومة. كنا نريد عملية صارخة، ويومها وشوش عماد مغنية بفكرة العملية الاستشهادية.‏

تطلع الجميع بعضهم ببعض وتساءلوا في سرهم: هل يوجد متطوع يقتحم بنفسه هدفاً للعدو بسيارة مفخخة؟‏

ابتسم عماد مغنية ولم يأبه لمن لا يصدق، لانه كان قد تجاوز هذه العقدة، حيث ان هناك دائماً الكثير من الافراد الشهداء الأحياء المستعدين للمهمة.‏

كانت العقدة المشكلة هي في إيجاد إمكانات مالية وعسكرية (عتادية) لإعداد العملية، وكان عماد قد وجد «مجنوناً» يحاكي فكرته ولو على سبيل التجربة. كان ذلك الحالم الآخر: الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد).‏

بعد أيام قليلة دوى انفجار هائل تجاوز صداه مدينة صور والجنوب الى لبنان والعالم، واحتل واجهة عناوين وسائل الإعلام، وذلك عندما اقتحم أحمد قصير بنفسه وبسيارته المفخخة ما كان يسمى «بناية عزمي»، التي كانت قد تحولت الى ثكنة عسكرية اسرائيلية ومركز قيادة وادارة الاحتلال الاسرائيلي في القطاع الغربي من جنوب لبنان، وتم تدمير الهدف وقتل وجرح من فيه.‏

في تلك اللحظة كان عماد مغنية يسلك الطريق الى تأسيس المقاومة الإسلامية ثم ليصبح «الحاج رضوان».‏

في تلك اللحظة لبس عماد مغنية ظله «الحاج رضوان»، وأخفى وجهه عن الجميع، وصار ملاكنا الحارس الذي يسهر علينا ويحرس احلامنا ويأخذ بيدنا الى ساحات المقاومة التي كلل جهادها بالغار بعد تحرير المنطقة الحدودية باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وعدد من المجاهدين الاسرى لا يتجاوز عددهم اصابع اليد الواحدة.‏

قبل ذلك كان عماد مغنية بين بين، حاضراً بين طلائع المقاومة اللبنانية حتى تحرير صيدا وصور والنبطية، وهو إن كان متصلاً بالشهيد محمد سعد، فهو كان متواصلاً مع الشهيد زهير شحاذة في غرفة عمليات المقاومة، ومع بعض الذين تأخر موتهم او شهادتهم مثلي.‏

أثناء ذلك انتبه عماد مغنية الى استشهاد قائد المقاومة محمد سعد واخوته في انفجار أطاح بحسينية معركة بمن فيها انتبه الى ان الاغتيال حدث في المكان غير المتوقع، وكان سريعاً وداهماً وقاسياً.‏

بعد ذلك أسقط «الحاج رضوان» الشاب الذي سلك طريقه صعوداً من طيردبا بلدته التي يحب، الى بنت جبيل التي يعشق، ليصبح رئيس اركان المقاومة الاسلامية ومنسق انشطة المقاومة العربية والاسلامية ضد مشروع إسرائيل وضد مشروع السيطرة على الموارد البشرية والطبيعية للشرق الأوسط الكبير من افغانستان والعراق الى المشرق العربي وغرب افريقيا.‏

من موقعه قاد «الحاج رضوان» المقاومة ميدانياً بمواجهة الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف عام ,2006 تلك المقاومة التي كرست هزيمة إسرئيل في لبنان. عملانياً اسقط الحاج رضوان اسطورة اسرائيل التي لا تقهر وأسقط قدرة الردع الاسرائيلية التي لن يرممها اغتياله.‏

اسقط «الحاج رضوان» ورفاقه منظومة الامن الاسرائيلية وأسقط القناع الذي كان يضعه النظام العربي ويخفي خلفه هزائمه.‏

لهذه الأسباب العربية أولاً ثم الإسرائيلية ثانياً، تم اغتيال عماد مغنية (الحاج رضوان).‏

الآن ماذا بعد؟‏

الجواب ببساطة: نحن مستمرون في المقاومة ونحن ذاهبون الى المقاومة، ولخوض هذه الحرب المفتوحة. هذه الحرب التي لا يدعو اليها او يؤسس لها او يتحمل مسؤولية اندلاعها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، بل إنه يكشف النقاب عن حصولها ووقوعها ميدانياً وعن محاورها وجبهاتها.‏

ـ فهذه الحرب مشتعلة على الساحة الفلسطينية بالتزامن مع قمة بيروت العربية ومبادرتها ضد كل مدينة وبلدة وقرية ودسكرة على مساحة فلسطين، وخصوصاً الضفة الغربية وعلى وجه الدقة والخصوص قطاع غزة.‏

ـ وهذه الحرب مشتعلة ضد سوريا عبر العقوبات الاقتصادية الاميركية المتصاعدة، وعبر المناورات العسكرية الاسرائيلية التي لا تهدأ.‏

ـ وهذه الحرب مستمرة ضد لبنان حيث إن اسرائيل تواصل مخالفة القرار 1701 الذي يدعو الى وقف اطلاق النار عبر التزامها وقف الاعمال الحربية وتواصل خروقاتها الجوية والبحرية للأجواء والمياه الإقليمية اللبنانية.‏

ـ وهذه الحرب مستمرة ضد مستقبل العراق عبر النشاطات العسكرية الاسرائيلية المريبة شمال العراق واغتيال علماء عراقيين وتقديم الخبرات لقوات الاحتلال الاميركية.‏

ـ وهذه الحرب مستمرة ضد مصر، حيث تستخدم اسرائيل نفوذ اللوبي الاسرائيلي في واشنطن للضغط من اجل وقف المساعدات العسكرية الاميركية لمصر، وعبر تحميل مصر مسؤولية وصول اسلحة الى قطاع غزة، وعبر النشاطات الاستخبارية الاسرائيلية ضد مصر.‏

ـ وهذه الحرب مستمرة على ايران بل انها تريد استبدال وجهة الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى عربي ـ إيراني وسني ـ شيعي، اضافة الى اعتبار الملف النووي الايراني اولوية اسرائيلية والسعي لدفع الولايات المتحدة لشن حرب بالوكالة عنها ضد ايران.‏

ـ وهذه الحرب مستمرة ضد دول الخليج وستتصاعد لامتصاص عائد ارتفاع اسعار النفط والغاز سواء عبر عمليات البورصة او عبر تجارة السلاح وعبر تشويه صورة النظام السياسي في منطقة الخليج واتهامه بالمسؤولية الرئيسية عن قيام المنظمات السلفية المسلحة وتطوير دورها من افغانستان الى مختلف اتحاد العالم، وصولاً الى وصم هذا النظام بالارهاب وتحميله المسؤولية المعنوية تجاه احداث 11 سبتمبر/أيلول ومجمل العمليات التي طاولت الدول الغربية.‏

اذن هذه الحرب مفتوحة في اساسها ومستمرة، واسرائيل ومعها ومن وراءها الولايات المتحدة الاميركية تقودان هجوما شاملا سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وامنيا بصفة خاصة، وفي هذا الاطار تقع عملية اغتيال عماد مغنية (الحاج رضوان).‏

ذات يوم كنت مشدوداً الى فكرة خارج انتباهي ما جعلني ساهيا عن ان السيارات في الشارع الذي كنت اسير فيه تبذل مجهوداً كي تتجنب دهسي، وفجأة وقفت ازائي سيارة ذات زجاج معتم وانفتح احد ابوابها على نداء: «يا شاعر بعدك ماشي ع إجريك يا مسكين».‏

انتبهت الى عماد مغنية يلبس وجه الحاج رضوان محاطاً بالحراس، يسكن في ذلك التابوت المعدني الذي يدعى: السيارة.‏

تحدثنا قليلاً وتواعدنا الا اننا لم نعد نلتقي إلا لماماً لتجديد كلمة سرنا: يا حسين!‏

الآن يمضي عماد ليدخل في النوم. فقد سهر طويلاً على محاور حياتنا، وتناوب الحراسة بنفسه بدون استراحة من الضاحية الى الطيبة وعيترون وعيناتا ومارون وعيتا الشعب واللبونة الى بنت جبيل وثانويتها حيث سيكون عنوان الدرس الدائم: المقاومة.‏

والآن استعاد عماد مغنية وجهه، ولبس ظله «الحاج رضوان» الى الأبد، ومضيا سوياً الى جنة الخلد!‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية ـ 18/2/2008‏

2008-02-18