ارشيف من : 2005-2008
ياقوتـة المقاومـة
كتب الشيخ عفيف النابلسي
ليس في الكلمات، في جانبها الأكثر ألقاً وغوراً من موردٍ نهائي يُسدُّ به الرمق حين نتحدث عن شهيدٍ يتحير في المآقي والقلوب كعماد مغنية.
عماد.. ليس في الكلمات شيء يمنحنا الاكتمال والتوقف والرضا، أمام أشرعة الجهاد طليقةً مبللةً بالغار وعبيط الدم وهي تعبر من تحت ناظريك..
يا لك.. يا لكَ من جرمٍ صغيرٍ وفيك انطوى العالم الأكبر.
كنت حتى الأمس القريب داخل الهمس، وأنت اليوم عاصفة الكلام.
كنت كلي الخفاء، وأنت الساعة كلي البهاء، كلي الحضور.
شهادتك التي تتخذ شكل الذروة والوهج والنور والنار، هي ثالثة المعلقات على كعبة الوطن. فبعد الشيخ راغب حرب والسيد عباس، ها هو اسمك يدخل في سر المقام، ومنهم من ينتظر ما بدلوا تبديلا.
عماد.. أعرف انك رفعت بحر كفيك الى السماء وسألت ربك من مسائله بأحبها إليه، وكل مسائله اليه حبيبة. سألته بمسائله كلها، فأعطاكها كلها، الشهادة كلها، كلها يا عماد.
أنت الآن... تفيض بحقيقتك بعد أن استوجبك التأويل حتى آخر خفقة مقاومة.
أنت الآن.. في الضوء،
بعد عمرٍ أطبق فيه الظلام على بدر وجهك.
ماذا يُكتب عنك، والمقاومة سيرتك الذاتية.
وكيف يُستدل اليك، وكل العلامات في تلال الغفاري وأوديتها تحمل شارتك.
ما العدو حين تكون؟
ضجَّ العدوّ من هدير صوتك من دون أن يُسمع لك صوت، ومن ضرباتك من دون أن يُرَى لك أثر. فقد ادركت منذ بواكير عملك في الجهاد وامتهانك مهنة المقاومة أن البأس وحده أم المعارك.
لا أخفيك يا عماد أني كنت أبحث لك عن صفة تُشبهك الى حدٍ ما، تجتمع فيها الألوان والأبعاد والأشكال، فوجدت ان الياقوت فيه من الشرف والخواص ما ليس في غيره من الدرر والجواهر، وأن ألوانه عديدة فمنها الأحمر والأخضر والأصفر والأزرق والأبيض...
وأن أنواعه عديدة منها ما يتكون في البحر ويسمى «المكتَنَف» من الكنف بمعنى الحفظ والاحاطة. ومن خواصه أنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه.
وإنه حاد الصفاء، شديد النقاء، قوي الضياء، يحمل تعابير الظاهر، وعمق الباطن.
وألطف ما وجدته ثلاثة أشياء. الأول: أن التختم بالياقوت ينفي الفقر. والثاني: أن أبواب الجنة من الياقوت. والثالث: أن الله خلق الجنة من لُبنتين، لُبنة من ذهب ولُبنة من فضة وجعل حيطانها (أسوارها) الياقوت.
وإذا أردنا أن نجري مؤالفة بين ما يوحيه الياقوت وبين شخصية عماد مغنية بهذه المغامرة الشكلية والتعبيرية فلن اتردد بوصفه «ياقوتة المقاومة».
فعماد شخصية خفية حميمة وعميقة شأنه شأن الينابيع الداخلية. وهو كتيم مغلَق، وصامتُ مطبِق، وغامض ملغز. لكن الانطواء على الذات يتحول في لحظة توهج حاق الانكشاف والظهور.
تأصلت اشكال عماد في تلك المساحة بين حدين: حد الشهادة وحد الشهود. فبينا هو في جهاده لا يُرى إلا في ثياب الميدان وإن تنوعت وازدانت بأقنعة التنكر، يعبر عماد الى عوالمه المعنوية بعشقه الذي ينبثق من سر سويدائه ليحط طائره في جلالة الأزلية.
فهو لا يرى نفسه إلا في مرآة عشق العاشق، بين إشارة العبارة وعبارة الاشارة، الى ان يبلغ الفتح بمصباح الدم ورائعة الشهادة، فهناك هناك نهاية العبودية.
نعم، يصح الكلام بخجل عن صفاء عماد ونقائه وضيائه، وعن نفيه للفقر في المعيشة والكرامة والحرية والمعرفة. أليس في الأمن غنى وقد جاء به إلينا! وفي الشهادة عز أبدي وقد مهد لقوافل الشهداء كي تصنع النصر! وفي الحرية الحياة وقد نثرها في اجوائنا كعبير الربيع، وفي المعرفة التقدم متجاوزاً ركود الزمن.
كما أن كلنا يعلم أنه كان باباً مفتوحاً يعبره الوالهون الى الجهاد والمقاومة والاستشهاد، ونعلم انه كان سوراً يحمي حدود الوطن وأرزه، وفلسطين وجوهرتها القدس بجمرة فؤاده.
من أجل ذلك أنت يا عماد ياقوتة المقاومة، جمالاً وشفافية وتشفعاً وتحوطاً واقتحاماً وإثارةً للخيال.
كل مشروع وكل فعل مقاومة كان يبدأ من سؤال وكنت أنت السؤال، والمستعد لاصطياد الجواب لتكتب نصاً جهادياً يتوسع في افق التجربة، التي تحتاج الى تمردٍ دائمٍ منك على السائد والعادي، وتخطي مظاهر الأشياء الى مطاويها، والخروج من الاستحالة الى الممكن كي يبقى زمام الأمر في مجابهة العدو بيديك.
على مدى سجنك الطويل كنت حراً طليقاً، تهرب من الواقع الى الحقيقة، الحقيقة المدموغة على جباه المجاهدين، وأكفهم وقبضاتهم، ولم ترحل إلا بعد أن بنيت لهم صروحاً حجارتها من ايمانٍ وعلمٍ وأملٍ.
في هذا الزمن الحافل بالمتغيرات الحادة، أنت أولى أن نجعلك عنواناً لحديثنا، لزهونا، لنصرنا الذي لم يجُف، وما تركته لنا مضمراً في الآتي من الأيام داخل النسغ الحي للرابضين على ثغور الحب والشهادة، حاملين عينيك يرمون بها اقصى العدو.
لا، لن تعود الساعة الى الوراء، ولن يعرف اليباس طريقاً الى الوطن، والاخضرار لن تطاله رياح السموم. فهذا دمك سيفتتح صورة الأشياء القادمة، وجه المنطقة، مصيرها ومسارها.
لقد انتهى بك المقام الى دار الرضوان يا «رضوان»، فنم قرير العين فقد تحقق الوصال ونلت المنال.
يقول صدر المتألهين الشيرازي: «إن الروح الانسانية إذا تجردت عن البدن مهاجرة الى ربها لمشاهدة آياته الكبرى وتطهرت عن المعاصي والشهوات والتعلقات، لاح لها نور المعرفة والايمان بالله وملكوته الأعلى، وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهراً قدسياً.
فيا ياقوتة المقاومة لن نتردد أن نحدي هذا البيت من الشعر:
«يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار».
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية