ارشيف من : 2005-2008
في ظلال أحزان الوطن ... عماد مغنية: الصورة الوحيدة
كتب طلال سلمان ...
فاض الحزن باللبنانيين فصار بحراً يجمعهم على اختلافهم في مواقفهم السياسية ويوحّدهم في قلب الخطر على الوطن والدولة: كانوا يستعدون لإحياء ذكرى شهيدهم الكبير رفيق الحريري، فإذا بالحرب الإسرائيلية المفتوحة ضدهم تطاول بطلاً عاش مقاوماً وسقط مقاوماً هو القائد الشهيد عماد مغنية.
ولسوف تتسع العاصمة بيروت، بقلبها وضواحيها، لمواكب المواطنين الذين سيحتشدون ليؤكدوا جدارتهم بوطنهم الذي كان صغيراً فكبر بشهدائه حتى صار مالئ الدنيا وشاغل الناس، وصار مثالاً في الصمود والقدرة على الإنجاز بشهادة مواجهته الحرب الإسرائيلية قبل عام وبعض العام، وانتزاعه حقه في الحياة، بهويته العربية وبقدرات شعبه غير المحدودة على تخطي الصعاب والمنازعات والخلافات السياسية التي تفاقمت حتى كادت تهدد وحدته وحقه في غده الأفضل.
ولن تكون المواكب متصادمة تتنازع الساحات وتتعارك بالشعارات، فالحزن الوطني النبيل يجمع ولا يفرّق، ويكشف أبعاد المخاطر المصيرية... ومن كان يحتاج دليلاً جديداً فقد وفر له العدو الإسرائيلي أدلّة لا تدحض على أنه كان وما زال وسيبقى «العدو»، وقد زادت هزيمته في حربه من إصراره على تدمير لبنان النموذج في وحدة شعبه وهي قلعة صموده ومصدر أمله في تخطي الصعاب التي فرض عليه أن يعيشها على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة.
فالحزن الوطني النبيل يجمع ولا يفرّق ويؤكد أن الوحدة هي الطريق إلى المستقبل الذي قدم هذا الشعب الصغير من دمائه ثمن جدارته به.
لقد جاء اغتيال «المقاوم المطلق» عماد مغنية جرس إنذار ينبّه من غفل من اللبنانيين إلى أن الحرب الإسرائيلية لما تنته، وأن جولاتها مفتوحة بعد، وأن عليهم أن يستعدوا لمخاطرها بوحدتهم وبوعيهم لحقيقة أن عدوهم الإسرائيلي سيبقى عدوهم، وأنه كان وما زال وسيبقى المستفيد الأول من فرقتهم ومن اختلافاتهم التي تضعف وحدتهم وبالتالي قدرتهم على الصمود.
تكفي صورة النواب الإسرائيليين وقد انتظموا صفوفاً في الكنيست ليقدموا التهنئة ويباركوا لرئيس حكومتهم (المهزوم في لبنان) إيهود أولمرت عملية اغتيال ذلك الذي نذر نفسه للشهادة منذ نعومة أظفاره، عماد مغنية، وليرفعوا تحياتهم إلى رئيس الموساد مئير دغان.
يكفي أن يسمعوا الناطق باسم الإدارة الأميركية يعلن أن «العالم صار مكاناً أفضل بعد اغتيال عماد مغنية... ولن نبكي عليه بعد غيابه».
يكفي أن ينتبهوا إلى ما شهدت به الأعداء: المخطِّط الممتاز، الرأس الخلاّق، كان بين الأشد خطراً بين الذين خلقوا أبداً. كان متعذراً اكتشافه. وبديهي أن تقول إسرائيل بلسان جدعون عزرا: مبارك من نفذ هذا الاغتيال!
لا يملك الكثيرون ما يقولونه في عماد مغنية، الإنسان، المجاهد، المخطّط، الشجاع كأقصى ما تكون الشجاعة، المقتحم، الذي لم تعرف له غير صورة يتيمة أو اثنتين على امتداد عمره الجهادي الذي تجاوز ربع قرن.
لقد ذاب هذا الفتى المتحدّر من قرية طيردبا في ضواحي صور، لأسرة فقيرة انتقلت مثل آلاف الأسر التي عزّت عليها اللقمة في جنوب الحرمان إلى بعض ضواحي بيروت، واستقرت فيها إلى أن هجّرتها الحرب الأهلية في منتصف السبعينيات.
ولأنه ابن منطقة على حدود فلسطين شهد أهله عملية التهجير الجماعي للفلسطينيين إلى ديار اللجوء، فقد كان طبيعياً أن يتعاطف وأن يقترب من المقاومة الفلسطينية لقتال إسرائيل التي لن تتأخر كثيراً في تهجير أهله في الجنوب وفي إحراق قراهم وتدمير أسباب الحياة فيها.
وهكذا انتسب إلى «فتح»، واختير ليكون في «القوة 17».
ولأن الانضمام إلى المقاومة كان خياره، فإنه انتسب إلى «أمل» ثم إلى «حزب الله» بعد الاجتياح الإسرائيلي 1982 الذي أخرج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
من تلك اللحظة امتد الرباط الجهادي مكيناً بينه وبين السيد حسن نصر الله، وظلا شريكي مصير في قلب المقاومة وقيادتها، في التخطيط وفي التنفيذ، فعاشا ـ مع سائر المجاهدين ـ الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام ,1993 وفي العام ,1996 وعاشا معاً فرحة إجلاء الاحتلال في العام ,2000 ثم كان قدرهما أن يعيشا معاً أيام المجد العظيم في مواجهة الحرب الإسرائيلية في تموز ـ آب .2006
سيمر زمن طويل قبل أن تفرج المقاومة عن السجل الحافل بالبطولات والإنجازات الخارقة للحاج عماد مغنية... فهذه الحركة الجهادية التي استولدها قهر الاحتلال وعجز السلطة عن مواجهته، تختلف عن سائر حركات المقاومة بأنها لا تتباهى بالبطولات الشخصية لمجاهديها، وإنما تركيزها على الإنجاز العظيم لفعل المقاومة كتنظيم ذي قضية، يعتمد العلم والمعرفة الدقيقة بالعدو والتخطيط القائم على المعلومات اليقينية وتراكم الخبرات إضافة إلى الروح الاستشهادية. لم يكن المجاهدون أبداً انتحاريين. كانوا مقاتلين يعرفون عدوهم ويتقنون فنون المواجهة معه نتيجة الدرس والتمحيص والاستخبار الدقيق والتعرف إلى أساليبه، واختراق حواجز السرية وكشف أساليب مخابراته فضلاً عن أدواتها وعملائها ومصادر معلوماتها.
ولأن عماد مغنية لم يكن استعراضياً، ولم يكن ممن يتباهون بإنجازاته (الشخصية)، ولم يكن يطمح إلى دور سياسي وإلى بريق الشهرة ودويها، فلقد ظل يتابع عمله بدأب وبدقة نادرين..
كان يعرف أنه منذور للشهادة، بل لعله كان «شهيداً بالولادة»، ولعله لهذا استمر مقاوماً مطلقاً حتى النفس الأخير.
لم تُعرف له صورة، لكن دوره ملأ بدويه العالم، هو الذي أثبتت الأيام أنه كان في كل مكان، وأنه اتهم بكل عملية طاولت الإسرائيليين ومن ارتضوا لأنفسهم موقع مساند الاحتلال الإسرائيلي.
صار اسمه مصدر رعب للأعداء... الذين أعجزهم كشفه ورصد حركته، فأطلقوا عليه لقب «الثعلب»، وصار شبحه الأسطوري يطارد الإسرائيليين فتعجز أجهزة مخابراتهم المقتدرة والتي تتلقى العون من مختلف دوائر التجسس والمخابرات في الغرب أجمع، وإن كان للأميركيين دوماً دور الطليعة فيها، عن رصد مكان وجوده ومطاردته والإيقاع به.
لا تفسير للأسطورة التي اسمها عماد مغنية إلا بالإيمان: الإيمان بقضيته، قضية وطنه وشعبه وحقه في الحرية وفي الغد الأفضل.
... وبعد ربع قرن من الجهاد سقط الفارس عن جواده.
كيف، ولماذا، وأين، ومن، وبأي أسلوب وأية خدعة، وأسئلة أخرى بلا نهاية، لأن جوابها سيتأخر، بسبب الظروف المعقدة التي اختارها لحياته، وبسبب الدقة المتناهية في تنفيذ هذه العملية الشيطانية حيث كان مستبعداً أن تقع وأن تنجح.
لقد تحوّل المجاهد الأسطوري إلى رمز حقيقي، تضفي عليه الشهادة هالة من نور وتجعله قدوة يحتذى به في مواجهة الاحتلال والظلم والدعاية المنهجية التي تصوّر الإنسان العربي محدوداً، مشغولاً بأمور الدنيا، لا يتقن القتال ضد عدوه، بينما هو بارع في الاقتتال الأهلي.
عماد مغنية: لكأنما اختار موعد استشهاده، فجاء متزامناً مع ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، ليقدم للبنانيين فرصة إضافية مجلّلة بدماء الشهداء للتوحد والتفاهم على شؤون دنياهم في وطنهم الصغير.
والأمل أن يكون، اليوم، حيث ستفتح بيروت وضواحيها قلبها لجموع المحتفلين بالشهيدين، مناسبة لاستذكار ما يجمع بين اللبنانيين، وهو كل حياتهم في الحاضر والمستقبل، ونبذ ما يفرّق، وهو طارئ وهزيل وقابل لأن يذهب مع الريح متى توافقوا.
ولسوف يتوافقون في ظلال شهدائهم الذين منحونا شرف الحياة بكرامة.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 14 شباط/ فبراير 2008