ارشيف من : 2005-2008

لبنان على مفترق ثلاثة اتجاهات

لبنان على مفترق ثلاثة اتجاهات

هذه القرارات ليس لأنها سلقتها بمعدل دقيقتين ونصف الدقيقة للقرار الواحد ، وليس لأنها في نظر المعارضة وبالتالي اكثر من نصف عدد اللبنانيين حكومة غير دستورية وغير شرعية وغير ميثاقية فحسب ، بل لأن بين المخالفات الفاحشة واحدة كارثية هي إغتيال السلم الأهلي والعيش المشترك بدم بارد ، عمداً وعن سابق تصور وتصميم .‏

ذلك كله يطرح سؤالاً معذِّباً : لماذا جرى إرتكاب المخالفة الكارثية في تلك الليلة الليلاء ؟‏

كانت المقاومة اللبنانية ، بقيادة حزب الله ، أقامت منذ مطالع تسعينات القرن المنصرم شبكة إتصالات خاصة بها في الجنوب اللبناني لحماية أمنها وسلامة عملياتها القتالية ضد العدو الصهيوني . هذه الشبكة كانت احد ابرز عوامل إنتصار المقاومة في حرب إسرائيل الثانية على لبنان صيفَ العام 2006 بشهادة لجنة "فينوغراد" نفسها . إلى ذلك، جرى التعارف على إعتبار شبكة الإتصالات هذه جزءاً لا يتجزأ من سلاح المقاومة . وبما ان الحكومات المتعاقبة ، وبينها حكومة السنيورة ، اعترفت بالمقاومة وبدورها الوطني ورفضت إعتبارها ميليشيا ، وفق منطوق قرار مجلس الأمن الدولي 1559 ، وامتنعت تالياً عن حلها او تجريدها من السلاح ، فقد إنضم حزب الله إلى حكومة السنيورة صيفَ العام 2005 على أساس هذه المبادئ والمفاهيم والإعتبارات .‏

بعد مرور أكثر من 18 عاماً على إنشاء شبكة الإتصالات وإعتراف الحكومات المتعاقبة بالمقاومة وبشرعية سلاحها ، ومن ضمنه هذه الشبكة ...‏

وفي ذروة التوتر المتصاعد بين إسرائيل والمقاومة وتسرّب معلومات وتقديرات بقرب شن حرب إستباقية على المقاومة وربما على سوريا أيضا ...‏

ورغم صدور موقف صارم عن حزب الله يعتبر فيه شبكة الإتصالات جزءاً من سلاح المقاومة وكفاحها ، ويحذر من المس بهما ، قررت حكومة السنيورة بدم بارد الآتي :‏

ـ " إعتبار الشبكة غير قانونية وغير شرعية وتشكّل إعتداء على سيادة الدولة والمال العام ".‏

ـ " إطلاق الملاحقات الجزائية في حق كل من يثبت ضلوعه في العملية ، أفراداً كانوا أو أحزاباً أو هيئات أو شركات ".‏

ـ " رفض الإدعاء ان حماية حزب الله تستوجب إقامة مثل هذه الشبكة واعتبارها سلاحاً مكملاً لسلاح الحزب "...‏

ـ " تزويد الجامعة العربية والمنظمات الدولية تفاصيل هذا الإعتداء الجديد على سيادة القانون في لبنان ، وفضح الدور الذي قامت وتقوم به هيئات إيرانية في هذا الحقل ".‏

ـ " إعادة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير إلى ملاك الجيش" ( أي إقالته من منصبه بدعوى تعاونه مع المقاومة ).‏

أوساط حزب الله ، حتى قبل صدور ردة الفعل الحاسمة من أمينه العام السيد حسن نصر الله ، اعتبرت قرارات الحكومة بمثابة إعلان حرب.‏

الأوساط السياسية ، لاسيما المعارضة منها ، استنكرت القرارات-المخالفات وتساءلت عن مغزى إعلانها في هذه الآونة تحديداً رغم علم الجميع ، ولاسيما الحكومة ذاتها، أنها غير قابلة للتنفيذ.‏

الأوساط العمالية النقابية رفضت قرار الحكومة في موضوع تصحيح الأجور لأنها رفعت حدها الأدنى إلى 500,000 ليرة في حين ان الاتحاد العمالي العام طالب بجعله 960,000 ليرة ، وقرر نتيجةَ ذلك تأكيد إلتزامه الإضراب العام .‏

لماذا استفزت حكومة السنيورة كل هذه الأوساط والقيادات والفعاليات بإراقة حبر ساخن على ورق قرارات غير قابلة للتنفيذ ؟‏

ثمة إجابات متعددة عن هذا السؤال .‏

فريق المعارضة الراديكالية ، ولاسيما أوساط حزب الله وأنصار المقاومة عامةً ، يميلون إلى الإعتقاد بأن ما جرى مخطط متفق عليه بين " قوى 14 آذار" الموالية للحكومة وإدارة بوش، الغاية منه دفع الوضع المحتقن إلى الإنفجار بغية تبرير مطالبة مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لدعم الحكومة في سعيها لتنفيذ بنود القراريـن 1559 و 1701 ما يؤدي ، في حال إرسال مثل هذه القوة أو الإستعاضة عنها بقوة أطلسية مؤلفة من قوات أميركية وفرنسية ، إلى استشراء الاضطرابات والفوضى وتعميمها في جميع أنحاء لبنان ، وهو ما أطلقت عليه "القوة الثالثة " بقيادة رئيس الحكومة الأسبق الدكتور سليم الحص مصطلح "عرقنة " لبنان بعد ان أفلحت إدارة بوش في "لبننة" العراق !‏

أركان المعارضة المعتدلة (نبيه بري ، عمر كرامي، جبهة العمل الإسلامي وغيرهم) فسـروا قرارات الحكومة بأنها محاولة فاجرة للتغطية على فشلها المريع في كل الميادين، ورفضها معاودة الحوار للإتفاق على تنفيذ بنود المبادرة العربية ، وتهربها من استجابة مطالب الاتحاد العمالي العام المتعلقة بتصحيح الأجور وغلاء المعيشة ، وتمسك أركان قوى 14 آذار بالسلطة لغاية موعد الانتخابات في ربيع العام المقبل وربما إلى ما بعده إذا تعذر إجراؤها.‏

أعداء سياسة إدارة بوش الرامية إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بقيادة قطب المعارضة العماد ميشال عون أكدوا أن حكومة السنيورة ومن يقف وراءها هي مصدر الكوارث جميعا ، وان ما تسعى إليه هو تفجير الوضع المأزوم لتفكيك الكيان اللبناني إلى مجموعة كانتونات كي يصار إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين في احدها .‏

الحقيقة ان كل هذه السيناريوهات محتملة وواردة ، ولعل حصيلتها النهائية ستكون تدويل قضية لبنان بجعلها جزءا لا يتجزأ من تدويل قضايا المنطقة برمتها . ولا شك في ان وجود الولايات المتحدة كلاعب رئيس وطرف أساس في الصراعات الإقليمية من فلسطين إلى لبنان والعراق وصولاً إلى أفغانستان سيساعد واشنطن ، أياً كـان السيد القادم إلى البيت الأبيض ، على اصطناع تسويات دولية للقضايا الإقليمية العالقة .‏

إلى أين من هنا ؟‏

الأفق ملبّد بالغيوم والرؤية مشوشة . يبدو ان جميع الأطراف فوجئوا بما حدث رغم وضوح المقدمات . الحكومة لم تحسن تقدير ردود الفعل المتوقعة على قراراتها "النظرية" غير القابلة للتنفيذ ، والمعارضة لم تحسن تقدير ضراوة سخط قاعدتها الشعبية على حكومة السنيورة وفريق الموالاة ، كما فوجئت أيضا بسخط جماهيرها على عدم تماسك قيادتها وتلكؤها وعدم مبادرتها في مواجهة الفئة الحاكمة . الأمر نفسه ينطبق على الاتحاد العمالي العام الذي كان فَقَدَ طابعه النقابي وأصبح مجرد واجهة للقوى السياسية التي يملأ ممثلوها مناصبه القيادية .‏

كل هذه الاعتبارات حملت السيد حسن نصر الله على تأجيل إعلان موقف حزب الله ، حاضراً ومستقبلاً، إلى يوم الخميس، أي إلى ما بعد الإضراب العام والتحركات الشعبية التي نظمها الاتحاد العمالي العام.‏

من مجمل هذه التطورات يمكن إستشفاف ثلاثة اتجاهات لمجرى الأحداث القريبة والبعيدة .‏

الاتجاه الأول، ان تكتفي قوى المعارضة، بعدما تأكدت من إتساع قدراتها الشعبية ، بما حققته من ردود فعل قوية على سياسة الحكومة فلا تتجاوز حدود الصراع السلمي الديمقراطي، ولا تطالب بأكثر من تجميد القرارات النظرية التي اتخذتها الحكومة ، وتضغط من اجل تحسين مركزها التفاوضي تجاه قوى الموالاة ، مفسحةً في المجال لتشديد الضغوط على الفريق الحاكم من اجل القبول بتنفيذ بنود المبادرة العربية بالتزامن فيما بينها ووفق إتفاق مكتوب مكفول عربياً حول شكل حكومة الوحدة الوطنية وعدد أعضائها وتوزيع حقائبها ومضمون بيانها الوزاري من جهة وقانون الانتخاب العتيد ونوع النظام التمثيلي المعتمد فيه (نسبي أم أكثري أم كليهما) وحجم الدائرة الانتخابية وعددها وتوزيع المقاعد النيابية فيها من جهة أخرى ، بالإضافة إلى تحديد موعد إجراء الانتخابات والهيئة المستقلة التي يقتضي ان تشرف عليها .‏

الاتجاه الثاني ، ان لا تكتفي قوى المعارضة ، إزاء تعنت الفريق الحاكم وصلفه وإمعانه في الإستقواء بقوى خارجية ورفضه الحوار وبالتالي التنازل عن مواقفه السلبية من طريقة تنفيذ بنود المبادرة العربية بالضغط السياسي ، وذلك بالإنتقال إلى تحقيق مزاوجة حية بين النضال السياسي والنضال الإجتماعي ، وصولاً إلى مرحلة تنفيذ متدرجة لأشكال متنوعة من العصيان المدني من خلال الموظفين والمستخدمين والعمال في المؤسسات والمرافق العامة التي لقوى المعارضة فيها يد عليا ، وفي المناطق والمدن والبلدات التي لها فيها ايضاً غالبية شعبية وازنة . كل ذلك من اجل إزاحة حكومة السنيورة وحمل قوى 14 آذار ومن يقف وراءها على التسليم بتأليف حكومة وطنية مستقلة جامعة بصلاحيات إستثنائية لوضع وإقرار وتنفيذ قانون ديمقراطي عادل للإنتخابات على أساس التمثيل النسبي تحت إشراف منظمات عالمية غير حكومية لمراقبة صحة الانتخابات ونزاهتها ، بحيث ينبثق عنها مجلس نواب وطني لا طائفي ذو طابع تأسيسي ومجلس آخر للشيوخ على أساس تمثيل متساوٍ للطوائف الست الكبرى وللأقليات المسيحية والإسلامية (المادة 22 من الدستور) فيصبح بإمكان السلطة التشريعية بتركيبتها التمثيلية الشاملة صنع تسوية لبنانية تاريخية مرة والى الأبد ، كما حدث في سويسرا بعد حروب امتدت نحو 500 سنة بين أقلياتها القومية والدينية واللغوية .‏

الاتجاه الثالث ، أن تتدخل القوى الخارجية ، لاسيما الولايات المتحدة وفرنسا ، عبر الأمم المتحدة من اجل نشر قوة دولية ، وإذا تعذر ذلك نشر قوة أطلسية ، على طول الحدود بين لبنان وسوريا بقصد التضييق على حزب الله والمقاومة ومحاصرتهما وبالتالي محاولة تجريدهما من السلاح ، وإقامة نظام سياسي تابع يدور في فلك الولايات المتحدة وإسرائيل . وفي هذه الحال ، ستجد قوى المعارضة عامة وحزب الله خاصةً انه محكوم عليها جميعا بالتحوّل إلى حركة تحرير وطني لمقاتلة القوى الأجنبية الغازية والعناصر المحلية المتعاونة معها ، وصولا إلى تحرير التراب الوطني كاملاً من الغزاة ومن مطيتهم النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد ، وصولا إلى إقامة الدولة المدنية الديمقراطية على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية .‏

الأفق مكتظ بغيوم سوداء ، والأعصاب متوترة ، وصبر الناس نافد ، والإحتمالات شتى ، ووحدها القوى المنظمة سيكون لها فصل المقال في المقبل من الأيام .‏

2008-05-08