ارشيف من : 2005-2008
محنـة وطنيـة
كتب سليمان تقي الدين
إنها محنة وطنية شاملة لا سابقة لها. كل الطوائف والمذاهب اشتبكت في نزاعات مسلحة وحروب. عبثاً نفتش عن أسباب تاريخية وتبريرات لهذه النزاعات، إنها صناعة معاصرة لهذه الهجمة الأميركية التي تبدّل أدوار النخب السياسية ووظائفها. محنة وطنية، لأن ما حصل يؤسس لانقسامات جديدة ويغذي تراص بعض المجموعات ويخرجها من دائرة الوطنية إلى الانحدار في الجو المذهبي. لبنان سائر إلى تفكك جراء انحطاط النخب فيه واستتباعها لهذه أو تلك من المصالح والسياسات الخارجية.
ما حصل خلال أسبوع واحد يكاد يختصر أزمة هذا الوطن التاريخية. نحن أمام قيادات لا تفكر أبداً بمصائر جماعاتها الطائفية التي تلعب على غرائزها وعلى عصبياتها. قيادات تسخر جمهورها لمواجهات دامية لا تخدم مشروع الوطن والدولة ولا الحرية والتقدم. لكن الضحايا قانعون بمصيرهم البائس، لأنهم ما زالوا رعايا وليسوا مواطنين، ولأنهم أتباع وليسوا أحراراً. ولأنهم يرتزقون من موتهم ولا يعرفون كيف يبنون حياة كريمة. لقد آن لنا أن ننتقل من نقد القيادة السياسية إلى معالجة أمراض مجتمع مسموم. نحن شعب لا نملك المناعة الكافية لبناء الحرية. نحن شعب لا يملك الوسائل الضرورية لممارسة الديموقراطية. نحن جماعة من الناس لم ندخل في عصر الإنسان المؤمن بإنسانيته المدرك لقيمة وجوده المستقل عن كل من يختصر وجوده شخصاً كان أم حزباً أم جماعة. نحن أمة ما زالت تحتاج إلى من يعبث بمصائرها ويهدر دماء شعوبها ومقدرات أجيالها، لأنها مسلوبة الإرادة من قبل السحرة والمشعوذين والمهرجين وصنّاع الخرافات والأساطير وبائعي الأوهام وتجار السياسة. أخطر ما نحن فيه أننا فقدنا ملكة التمييز بين الوطنية ونقيضها، بين الفضيلة وعكسها، بين التبعية والالتزام، بين الدين والطائفية، بين الله والمدعين وكالة عنه، بين الضمير والخطيئة، بين المجتمع والجماعة، بين المعرفة والادعاء بها الخ..
دخلنا في مرحلة جديدة، لأن بعض أمراء السياسة يريدون معمودية الدم للإمعان في امتلاك أهواء جمهورهم وفي تقديس جثث ضحاياهم.
لقد صرنا عمياناً في مملكة الخوف، صرنا قطعاناً في حظائر الذل المنتشرة في أربع جهات الوطن. صرنا أدعياء الحقيقة ونحن جهلة، أدعياء العدالة ونحن ظالمون، أدعياء الحرية ونحن عبيد الشهوة والسلطة والمال والقوة. ولن نكون أحراراً ما لم نعترف بالحرية لغيرنا، ولن نكون وطنيين ما لم نعترف بمواطنية الآخر، ولن نكون إنسانيين ما لم نؤمن بحقوق الإنسان ونتخلى عن كل مظاهر التمييز وكل مصادر العنصرية.
هذه محنة وطنية، لأن سلّم القيم قد تهاوى وانقلب رأساً على عقب. كنا نتحدث بالديموقراطية ونشحذ السيوف. نرفع راية الحرية ونمارس الاستبداد، نتكلم بالسيادة ونلقي الوطن على قارعة الأمم. ندّعي التقدم ونجيّش الناس بمفاهيم القرون الوسطى. نقتل القتيل ونمشي في جنازته. نبيع الوطن ونغني على وحدته. إنــنا قوم بائســون. إننا شباب خانع. إننا أصحاب ثقافة مشوهة. إننا لا نعرف الحق الذي يحرّر، والألم الذي يشفي، والمحبة التي تنقذ من الأحقاد والبغضاء والكراهية العمياء.
هــذه محـنة وطنــية آن لها أن تستدعي الصحوة، آن لها أن توقــظنا من غفــلة هــذا الزمن الذي سيــطرت فيه وعلى مقاليد أموره وناصــية تفكــيره رمــوز الفتــنة. آن لنا أن نراجع الماضي ونتعظ ونتطلع في الحاضـــر ونـــدرك إلى أي مستقبل تقودنــا هذه الحفــنة من السياسيــين الملوثين أصحاب التواريــخ السوداء وأصحاب المشاريع الجهنمية. الوطن ينهار والكرســي تحــترق والمسـرح يتصدع، والدولة تتشظى، والناس تقتتل، والجــوع يستفــحل، والأزمــة تتصاعد. آن لصاحب السلطة أن يتنحى، وللمحرّض أن يعتزل، ولتجــارة الموت أن تتوقف. عسى أن تكون الدماء التي سالت هذا الأسبوع والخــراب الذي عــمّ والفتــنة التي اندلــعت والقوة التي أفــلت عقــالها أن تعــيد إليــنا بقية من وعي فنــخرج مستدركــين ما هــو أخــطر وأدهــى. لا حــل إلا بالسياسة، ولا أفــق إلا بالحوار، ولا مســتقبل إلا بالدولــة، ولا تقــدم إلا بالإصلاح، ولا ســيادة إلا بالمــقاومة، ولا مرجــع إلا الــوطن.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية ـ 13/5/2008