ارشيف من : 2005-2008

المعركة الاجتماعية: نحـن مـواطـنـون

المعركة الاجتماعية: نحـن مـواطـنـون

الأجور فيما الغلاء تجاوز نسبة الخمسين في المئة كما تظهر أكثر التقديرات تواضعاً. لكن الدولة تتصرف تجاه موضوع تصحيح الأجور في القطاع الخاص بوصفها وسيطاً رغم أنها شريك أساسي حتى هذه اللحظة في تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتتأثر ميزانيتها من طريقة احتساب الضرائب على الدخل أو المحروقات أو الإعفاءات أو من بيع الطاقة للصناعيين أو دعم النقل... إلخ، ما يفرض أن تكون لها رؤية واضحة لمعالجة قضايا نصف مليون لبناني تقريباً هم الكتلة المرتبطة بنظام الأجر خارج موظفي ومستخدمي الدولة نفسها كرب عمل أساسي.‏

إن همّ الدولة الأساسي ينصبّ الآن على قوى العمل لديها في الأسلاك الأمنية المختلفة وموظفي الإدارة والأساتذة والمعلمين الذين يفوق مجموعهم المئتي ألف عامل، ويزيد عدد المتقاعدين منهم على الستين ألفاً. هذه الكتلة من العاملين لم تصحح أوضاعها الاجتماعية أيضاً لكنها أخذت من الدولة حقوقاً مكتسبة بات يصعب الارتداد عليها مع أي مشروع لتنظيم الرعاية في ميادين الصحة والتعليم ونظام التقاعد والشيخوخة. ومن اللافت هنا أن العبء الأساسي الذي تتحمله الدولة هو في كفالتها الطبابة والتعليم لدى القطاع الخاص وعدم توحيد المعايير والمرجعية، وبصورة أساسية الهدر.‏

فالدولة تقدم من ميزانيتها خدمات إضافية لفئات اجتماعية مختلفة خارج نطاق الفئات المضمونة خاصة في قطاع الصحة والشؤون الاجتماعية، وهي ما زالت تنفق على دعم بعض السلع الزراعية أو التجارية وتلبي حاجات الإغاثة والطوارئ. لكن المشكلة التي واجهتها الدولة دائماً هي في عدم التوازن بين ما تنفقه وما تحققه من مردود على صعيد فعالية هذا الإنفاق وضبطه وسلامة نتائجه.‏

في سعيها لتنظيم هذه الأوضاع الاجتماعية تصطدم الدولة بتخلف نظامها الضريبي وبسوء إدارتها التاريخية لمسألة الرعاية الاجتماعية وتعدد أشكال هذه الرعاية وبخلفية رؤيتها للمسألة الاجتماعية انطلاقاً من التزامها بالليبرالية الاقتصادية بمفهومها المختلف. تنفق الدولة المزيد على الحاجات الاجتماعية الملحّة للمواطنين فيما هي تنظم أوضاع الاقتصاد على قاعدة الحرية المطلقة. تعيش الفئات الاجتماعية العليا في جنة ضريبية كالمصارف والشركات التجارية والعقارية بينما يتحوّل القانون الضريبي الحالي باتجاه الحداثة مع نظام (القيمة المضافة ـ ت. ف. أ) وهو نظام يوحّد السلم الضريبي وبالتالي يجني من الكتلة الشعبية الأوسع أكثر مما يجني من أصحاب المداخيل العالية. يفترض النظام هذا وجود طبقة وسطى ذات قاعدة اجتماعية عريضة، وهي لم تعد موجودة في لبنان. في نظام القيمة المضافة تدفع الضريبة بقدر ما تستهلك وليس بقدر ما تحقق من أرباح، وهو النظام الذي اخترعته الليبرالية الجديدة بديلاً عن نظام الضريبة التصاعدية الذي كان قاعدة وسنداً للديموقراطية في أوروبا وأساساً لبعض مظاهر التعاون الاجتماعي تأميناً للاستقرار الاجتماعي والسياسي.‏

ان اتجاه الدولة الأساسي الآن هو التخلي عن مسؤولياتها الاجتماعية، فهي قررت التعاقد الوظيفي حتى في بعض الأسلاك الأمنية (الدرك) ووسعت من نظام صناديق التعاضد (القضاة والأساتذة والمعلمين) وهي سائرة إلى خصخصة أهم الخدمات (الهاتف ـ الكهرباء ـ المحروقات ـ النقل) وهي ساهمت في زيادة أعباء التعليم عن طريق بدل التعليم الخاص الذي تقدمه إلى العاملين معها. لكنها بمحاولة دعمها الطبقة الوسطى حصرت هذا الدعم في الموظفين وحدهم وتركت العاملين في المهن الحرة يواجهون مصيرهم الخاص.‏

يزيد عدد العاملين في المهن الحرة المنظمة في نقابات محصورة على المئة ألف (أطباء ـ محامين ـ مهندسين ـ صيادلة ـ محاسبين ـ صحافيين). هؤلاء لا تتدخل الدولة أبداً في تقديم أي خدمات لهم. وهناك كتلة أوسع من الملاكين الصغار العقاريين أو الزراعيين، أو الحرفيين أو التجار الفرديين. هؤلاء أصلاً خارج منظور السياسات الاجتماعية والاقتصادية. بل إن الدولة تتجه في مجمل سياساتها إلى القضاء على الاقتصاد الحرفي والإنتاجي الصغير وتساهم بصورة رئيسية بإفراغ الريف من سكانه وتعطيل الثروة العقارية التي يملكها لصالح المضاربات العقارية وبيع الأراضي الزراعية للبناء السياحي ولتملك الأجانب.‏

إذا كانت الدولة الآن تعترف بالأزمة الاجتماعية، وأسبابها الخارجية على الأقل (ارتفاع الأسعار دولياً)، وإذا كانت مضطرة للتعامل مع مطالب الفئات المرتبطة بها (الموظفين ـ المعلمين ـ الأساتذة...) لأن هؤلاء بالتعاون مع العاملين في القطاع الخاص المنظم قادرون على شل الحياة الاقتصادية، فهذه مناسبة لطرح القضية الاجتماعية من خارج نظام تصحيح الأجور الذي يكاد يكون سياسة العطاءات (البخشيش) التي تسكّن الأزمة ولا تحلها، إلا إذا جرى اعتماد السلم المتحرك للأجور وارتبط بآلية منظمة فعالة ثابتة.‏

ومن المعروف أصلاً أن زيادة الأجور تزيد الطلب على السلع في الأسواق وهي تساهم في تحريك الأسعار ارتفاعاً، وهي لن تتحقق في يوم من الأيام إلا بموازاة الغلاء نفسه. فالمساومة التي تقترحها الدولة الآن، ويقترحها أرباب العمل، لا تكاد تغطي نصف قيمة الانخفاض في الأجور. والأهم من ذلك كله أنها تعالج قطاعات معينة ولا تتدخل في ظروف فئات اجتماعية واسعة خارج التنظيم الوظيفي أو المهني أو النقابي. هذا كله طبعاً ولم نتحدث بعد عن كتلة العاطلين عن العمل أو البطالة المقنّعة المتزايدة اتساعاً.‏

يقودنا ذلك كله إلى ضرورة طرح المسألة الاجتماعية بأبعادها الشاملة، أي ضمانات اجتماعية في أي نظام اقتصادي؟‏

إذا كانت السياسة الاجتماعية للدولة متجهة إلى تحرير نفسها من دور الرعاية، فهذا لا يلغي أبداً دور الدولة أصلاً في مراقبة الخدمات الأساسية للمواطنين (أسعار الكهرباء والمحروقات والنقل والهاتف والخدمات الصحية والتعليمية)، وضرورة تنظيم المنافسة أصلاً تحقيقاً لذلك.‏

إذا كانت السياسة الاجتماعية للدولة هي في اتجاه ترشيق دورها كرب عمل أو تحديده (التعاقد الوظيفي حتى في الأمن) والتراجع التدريجي في التعليم الرسمي، واعتماد نظام ضريبي يقوم على فكرة الاستهلاك وليس الدخل، ولا الأرباح، فإن ذلك يتطلب، بموازاة خفض الضرائب عن الرساميل، حركة استثمارات ونموا اقتصاديا كبيرا.‏

إذا كانت الدولة راغبة في ضبط إنفاقها على الخدمات الاجتماعية وفي تشجيع نمو الطبقة الوسطى باعتبارها ضمانة النظام الليبرالي، فهي مطالبة بإعادة النظر في نظامها الضريبي لأن ما تنفقه في خدمة رأس المال على البنيات التحتية الأساسية يجب أن ترافقه ضريبة التحسين، وما تضمنه لحركة رأس المال من فوائد يجب أن يساهم في المشاركة بأعباء هيكلية الدولة المستمرة (كلفة الأمن والبنيات التحتية).‏

إذا كانت الدولة قرّرت أن لا امتيازات للعاملين معها على حسابات الفئات الاجتماعية المستقلة، فإنها مطالبة بأن لا تنفق على العاملين معها أكثر مما هو المستوى الاجتماعي الفعلي للطبقة الوسطى. لذا يجب أن تتوحد العطاءات في نظام شامل وأن يتوقف الهدر وأن تؤمن حقوق الإنسان الأساسية في الطبابة والتعليم لشتى فئات الناس.‏

لعل انكشاف الأزمة الاجتماعية وتفاقمها والصعوبات التي تعانيها خزانة الدولة الرازحة بالديون، مناسبة للتفكير في مجمل السياسات الاقتصادية والاجتماعية. لكن قبل أن نقفل هذا الحديث وجب التذكير بأسباب الديون العامة وبالنهب المتمادي لموارد الدولة وأملاكها العامة وبالمال السياسي الذي أنفق على فوضى المجالس والصناديق وبالكثير من مظاهر الهدر والفساد. تستطيع الدولة أن تتشدد مع مواطنيها ومع القوى العاملة المنتجة لمساهمتهم في إنهاض بلدهم من الورطة الاقتصادية، لكن فقط في اللحظة التي تبدي فيه حرصاً على المال العام تجاه الفئة الاجتماعية والسياسية صاحبة الامتيازات.‏

هذه المعركة الاجتماعية القادمة هي مدماك في تصحيح وتصويب المشكلات اللبنانية التي تتقدم بصفتها مشكلات مواطنين.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 29،4،2008‏

2008-04-29