ارشيف من : 2005-2008

ما العروبة الآن؟

ما العروبة الآن؟

يقينياً في الطب الحديث، لقد تجاوزته فحوص (د. أن. آي). هذا إذا كان لدى البعض بقية من دم تُفحص. فالجثث السياسية في عالمنا العربي أكثر من أن تُعَد وتحصى.‏

ليس موضوعنا في مطلق الأحوال من هو العربي وغير العربي من هذه الزاوية العنصرية. فالعرب معطى موجود منذ ما قبل الجاهلية. أما العروبة فمسألة سياسية معاصرة ترجع في التاريخ إلى مدى قرنين على الأكثر. هي ليست من بدء التاريخ ولن تكون نهاية التاريخ. إنها مرتبطة بتشكّل الوعي القومي وبالتبلور السياسي للأمم مع تطور المجتمعات الحديثة تقريباً في القرن التاسع عشر. ونحن العرب أصلاً قد أخذنا الفكرة القومية عن أوروبا لنتجاوز بها مفهوم «الجماعة الإسلامية» التي بدت لحظة من التاريخ كأنها إطار متخلّف للاجتماع البشري. ليتنا لم نفعل ذلك وليت الامبراطورية العثمانية لم تسقط مع اصطراع القوميات فيها!‏

العروبة بالنسبة لنا هي حقنا في الوجود كمجتمع سياسي أسوة بغيرنا من المجتمعات فتقوم لنا دولة قوية هويتها تتجاوز مكوناتها الاجتماعية البدائية (ما قبل الدولة)، أي القبيلة والطائفة... إلخ، ونكون نحن مواطنين فيها لا رعايا. فالدولة الحديثة أصلاً، ونحن نقتبس التاريخ الغربي، إما أن تقوم على الهوية القومية وإما على المواطَنة. نحن لم نحقق لا هذه ولا تلك. ورغم أهمية الوحدة الكيانية السياسية لأمة العرب، فليس شرطاً عليها أن تكون دولة مركزية لا تراعي خصوصيات المجتمعات القطرية التي كان لبعضها معطيات خاصة ما قبل تشكّل الدول الحديثة. لكن ما يهمنا أصلاً هو بناء الدولة الحديثة بما تحتاج اليه من مقوّمات وبما يتوافر لها من حقوق وإمكانات على هذا الصعيد. فالعرب بهذا المعنى هم المدى الحيوي الطبيعي لتشكّل تلك الدولة. العروبة السياسية هي المعطى التاريخي الحديث، أما الوحدة السياسية فهي المشروع المستقبلي لتجسيد تلك العروبة في دولة حرة وبمواطنين أحرار.‏

لهذه العروبة مشكلاتها التاريخية وتعقيداتها الداخلية التي لا يمكن تجاهلها أو إنكارها. لكنها بصورة أساسية كانت هدفاً للمشاريع الاستعمارية منذ غزوة نابليون حتى الآن. هناك قرار استعماري قديم متجدّد، وهذا من طبيعة الأشياء في صراع الأمم والمصالح، بأن لا تقوم هذه الدولة القوية في هذا الموقع الجيوسياسي الاستراتيجي. الجميع هنا يجب أن يتذكّر تجربة محمد علي باشا في مصر، الذي وصفه ماركس بأنه «استبدل العمامة الفاخرة برأس كبير». لقد أحبط الغرب مشروع محمد علي لإقامة دولة قوية بصرف النظر عن هويتها القومية.‏

قامت الثورة العربية مع الحرب العالمية الأولى على هدف بناء الدولة العربية، فمنع قيامَها الاستعمار القديم. وقام عبد الناصر بتجديد حلم الوحدة العربية فأسقط الغرب تجربته هذه. لم يحمل عبد الناصر بداية أفكاراً معادية للغرب، ولم يدخل في محاور السياسة الدولية إلا بعد أن تأكد عداء هذا الغرب الاستعماري لفكرة الدولة القوية بشكل عام، ودولة الوحدة العربية بشكل خاص. بل إن زرع إسرائيل في هذه المنطقة بالذات كان ولا يزال للحؤول دون تشكّل دولة عربية قوية حديثة في هذه المنطقة.‏

لقد فشلت بعض التجارب الوحدوية من دون شك، وفي ذلك مسؤولية عربية مباشرة لا جدال فيها. ولم يعد في معطيات الواقع الراهن خاصة في ظل التعقيدات الدولية والإقليمية إمكان لعمل وحدوي اندماجي بخاصة لأن الكيانات القطرية راكمت الكثير من عناصر التجزئة والخصوصية طيلة قرن من الزمن. لكن هل تملك أوروبا معطيات للوحدة أكثر مما يمتلك العرب الآن؟! وأمام تحديات التكتلات الإقليمية الدولية هل يمكن للعرب أن يفرضوا وجودهم بمعايير القوة الراهنة، التقدم الاقتصادي والاجتماعي والتقني، من دون أن يجدوا في ما بينهم شكلاً من أشكال التعاون؟‏

بهذا المعنى صارت العروبة حاجة راهنة ومستقبلية وليست إرثاً من الماضي ولا استعادة لتاريخ بل صناعة جديدة له.‏

إذا كان للعروبة الآن هذا المعنى، أي الدولة القوية الحديثة المتقدمة التي تضم مواطنين أحراراً يتمتعون بمستوى من التطور الاجتماعي والرفاه وحقوق الإنسان، فمن يعيق اليوم بصورة أساسية هذا المشروع؟‏

الجواب البديهي عن هذا السؤال هو قصور ذاتي وتحديات خارجية. طبعاً نحن مسؤولون عن حل مشكلاتنا الداخلية وعن قصورنا الذاتي وفي هذا حديث طويل ليس أقله أن بيننا أناساً يعتقدون أن العروبة تُختصر بفحص الدم. لكن هذه التحديات الخارجية كانت وما زالت عنصراً حاسماً في إعاقة مشروع العروبة في التبلور كمشروع حضاري في دولة حرة مستقلة متطورة.‏

لم نفحص يوماً دم هذا الملك العربي أو ذاك المسؤول الذي فرّط بالمصالح العربية، ولا غيرهم ممن تضيق بهم مساحات الكتابة. ولم نطعن يوماً بدمهم العربي وانتسابهم الشريف، لكنهم لم يكونوا في صف العروبة في مواجهة أعدائها.‏

نعم، يبدو كلامنا غريباً وقديماً لسبب بسيط هو أننا تخلّفنا عن إنجاز ما سبق لغيرنا من الأمم أن أنجزته وسبقنا الغير في مهماته وتطلعاته. لكن ذلك أدعى لأن نتمسك بالعروبة كي لا يحط بنا عالمنا المعاصر في قعر البئر الإنسانية ويجعلنا قبائل ما قبل التاريخ الحديث. العروبة بهذا المعنى الآن هي شرط المواطَنة لأن بديلها الحروب الأهلية والانقسامات الفئوية، ومن لديه طريق للمواطنة، للدولة الحديثة، للتقدم العربي، فنحن معه. من يردَّ عنا خطر إسرائيل وتحديات إيران والاجتياح الاستعماري الأميركي الجديد، من يُعِد لنا كرامتنا الإنسانية بالفينيقية والفرعونية والسريانية، فنحن معه.‏

نقول هذا على سبيل الجدل، لأن مصر خارج عروبتها صارت نسياً في السياسات الدولية، ولأن فلسطين أولاً، والأردن أولاً... إلخ، تلك المعزوفة، لم تورثنا إلا نكبة جديدة كنكبة العراق حيث صرنا هناك بلا نسب ولا هوية وبلا مقومات إنسانية.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 22/4/2008‏

2008-04-22