ارشيف من : 2005-2008
من لبنان إلى العراق وفلسطين: تقسيم «الدولة» بالسلطة .. ولا عاصمة؟!
كتب طلال سلمان
انطلاقاً من تجربة لبنان المريرة والمتكررة مع «الدولة» في حضورها وغيابها، أو تعطيلها، ولو إلى حين، لا بد من تسجيل «ظاهرة» تكاد تصبح «قاعدة» في سياسة الإدارة الأميركية تجاه منطقتنا العربية عموماً، في هذه المرحلة التي يمكن اعتبارها «تأسيسية» بمعنى ما..
تتمثل «الظاهرة» الجديدة كما عبّرت عنها الإدارة الأميركية تجاه لبنان بمواقف رسمية لأعلى المسؤولين في قمتها، كما برسائل تكرّر إبلاغها للبنانيين عبر موفدين ينطقون باسم الإدارة، لعل آخرها وأوضحها ما عبّر عنه ببلاغة ملحوظة ديفيد ولش قبل أيام، ومفاده: إما هذه السلطة القائمة بالأمر وإما الفوضى، أي لا دولة..
«السلطة» هي الهدف وليس الدولة. لا يهم أن تكون «السلطة» «بتراء» أو مطعوناً في شرعيتها أو في صحة تمثيلها شعبها... لا بأس أن تحكم بقوة «الأمر الواقع» طالما استحال «استقطاب» الشعب واستمالته إلى جانب الحكم... ولا يهم، في هذه الحالة، مدى الضرر الذي سوف يصيب «الدولة» كمؤسسة جامعة ومجسّدة للوطن وشعبه، على تنوّع اتجاهات القوى السياسية فيها وتعدّد آرائها.
أولى ضحايا مثل هذه السياسة «العاصمة» التي سوف يشطرها الانقسام، أو أنه سيتجلى فيها بأوضح مظاهره!.. أليست العاصمة هي «مركز الدولة»، فيها المؤسسات الموحِّدة والمجسّدة لوحدة الشعب: من رئاسة الجمهورية إلى المجلس النيابي، إلى مجلس الوزراء، إلى الإدارات المختلفة الاختصاصات وإن ظل أهم ما فيها التدليل على «وحدة القرار» كما على وحدة الأداة التنفيذية.
ومع الانقسام وكنتيجة له سينتقل الخلاف السياسي إلى الشارع، و«الشارع» في بلد يتباهى بأنه متعدد يصير «شوارع»... وهكذا سوف يرتدي الانقسام السياسي طابعاً فئوياً، سرعان ما يتبدى على شكل مواجهات بين «الشوارع» المنقسمة على ذاتها، ويتحوّل «الجيش» ـ باعتباره المؤسسة التوحيدية الأخطر ـ إلى «قوة فصل» بين الإخوة ـ الأعداء مع احتمال أن ينتقل خطر العدوى إلى صفوف الجنود الآتين من مختلف «الشوارع» فتكون الضربة القاضية لآخر ما تبقى من هياكل توحيد الدولة وقرارها الواحد.
***
ها هو العراق تحت الاحتلال الأميركي يفقد أهم رموز دولته المركزية: عاصمته بغداد.
لقد شطّر الاحتلال بغداد بالفتنة الطائفية، كما بقواته العسكرية، وبالميليشيات «الرسمية» التي أنشأها تحت اسم الجيش أو القوى الأمنية أو «مجالس الصحوات» العشائرية، وهي آخر البدع وأحدث ما أنتج العقل الجهنمي لقادة الاحتلال وأهل السلطة المعينين بقوة حرابه معززة بالانقسام الأهلي.
كان لا بد من «مسح» العاصمة وشطبها عن الخريطة، بجعلها أحياء، تبذر فيها بذور الفتنة فتصير مسارح اشتباك مفتوح... وبذريعة وقف الاشتباك «يطهّر» كل حي من «الدخلاء» عليه، بما يحوّل «الاشتباكات» إلى حرب مفتوحة تدور من حول «المركز» القائم في قلب عاصمة الرشيد أي في «المنطقة الخضراء»، حيث غرف عمليات الاحتلال واللاجئين السياسيين من المعينين حكاماً بألقاب مفخمة وهم لا يجرؤون على مواجهة شعبهم إلا خلسة..
ويبدو أن كل التدابير التقسيمية لم تنفع في ضرب وحدة العاصمة، بل وحدة الشعب، فكان لا بد من تعزيز الميليشيات، الطائفية والمذهبية، وتغذيتها بالمال (العربي؟!) والسلاح، فكانت «مجالس الصحوة» بذريعة مواجهة «القاعدة»... وعندما تكشّف عجز هذه المجالس عن حماية ذاتها بذاتها، وضعت قوات رسمية بتصرفها لحمايتها، فصارت عبئاً إضافياً على المحتل.. دون أن يتضاءل خطر «القاعدة» بل لعله قد تعاظم، وبالتالي وجدت الدعوة التقسيمية نصيراً للاحتلال، بأهدافه الأساسية.
ثم إن هذه التدابير قد فاقمت من غضبة العراقيين ونبهتهم إلى أن وحدتهم هي شرط السلامة، حتى لا نقول الانتصار... فتصاعدت الدعوات إلى الوحدة، على قاعدة المطالبة بجلاء قوات الاحتلال الأميركي... وكان بديهياً أن يتصادم الجهد الوحدوي مع الحكومة التي نصبها الاحتلال وتعيش تحت حمايته.
ما الحل، إذن؟
تفتقت عبقرية الاحتلال عن حل نموذجي سرعان ما تبنته الحكومة و«كفلته» السلطات المحتلة وهو: إقامة جدران فصل في قلب بغداد، بين الأحياء التي يعيش فيها الإخوة: جيء بمكعبات الإسمنت المسلح لتفصل بين الأخ وأخيه، بين المسجد والمصلين، بين المدرسة وتلامذتها، بين الجامعة وطلابها.
وبعد «نجاح» التجربة يجري العمل الآن على تعميمها، خصوصاً وقد تعززت بالانتصار المظفر على «جيش المهدي» في البصرة، والذي استخدم فيه الاحتلال الأميركي (ومساعده البريطاني) الطائرات الحربية لدك الأحياء التي بُنبت قبل اكتشاف أميركا، والتي كانت منابع للثقافة ومراكز إشعاع حضاري قبل أن تصير بريطانيا دولة!!
وهكذا خرج الناطق الرسمي للاحتلال ببشارة تليق باستقبال وزيرة الخارجية الأميركية التفقدية لرجالها في بغداد: لقد تمت السيطرة على موانئ البصرة ومنصات تصدير النفط!!
أما أهل البصرة وأما العراق وشعبه فإلى الجحيم وبئس المصير.
ولأن تجربة «عزل» الأحياء بالكونكريت المسلح حققت هذا النجاح الباهر في البصرة، فقد تقرّر بناء سور منها تعزل به «مدينة الصدر» عن سائر أنحاء بغداد، المشطّرة بالحواجز الإسمنتية والتي تعزل الأحياء السكنية بعضها عن البعض الآخر.
***
في فلسطين تحت الاحتلال، حيث لا عاصمة، كان الأمر أسهل على الاحتلال الإسرائيلي: غزة مفصولة، أصلاً، عن الضفة الغربية... ومدن الضفة مفصولة بالعسكر كما بوحوش المستوطنين عن بعضها البعض. ورام الله لم تكن ولن تصير عاصمة لفلسطين، وهي أصلاً في قبضة المحتل. وبالتالي فخطر الوحدة بين الشطرين مستبعد، لا سيما بعد كل الذي كان بين التنظيمين الحاكمين، وليس أسهل من تسعير الفتنة (وأصحاب المساعي الحميدة من العرب جاهزون) بما يبعد مخاطر احتمال قيام دولة وعاصمتها القدس، التي تم تذويب عروبتها وهويتها الفلسطينية أمام عيون العالم أجمع، وفي الطليعة منه عرب المسجد الأقصى وكنيسة القيامة المشلوحون على درب الآلام حتى إشعار آخر.
وبهذا يكون شطب «العاصمة التاريخية» شطباً للدولة العتيدة، التي تخسر يومياً المزيد من احتمالات قيامها، على الأقل كدولة لكل فلسطين، أو بالتحديد: لما يسمح به الاحتلال الإسرائيلي من أراضيها الممزقة بالمستعمرات وبجدار الفصل العنصري، والمهددة وحدة شعبها بمخاطر من الداخل كما من الخارج، تجعلها أبعد مع كل شمس تشرق وتغيب.
***
يضيق المجال، هنا، عن تعداد «الدول» المهددة في استمراريتها وبقائها انطلاقاً من أوضاع عواصمها...
لكن لا بد من ملاحظة أن بعض الأنظمة العربية (وربما معظمها) قد اعتمدت قاعدة تقول: أنا الدولة، فإن تهددني الخطر أخذت الدولة معي، وعلى المعارضين أن يختاروا بيني وبين الفوضى آكلة الدول!
وبئس هذا الخيار، خصوصاً أن هذه الأنظمة باتت تحت حماية أميركية معلنة، و«العراق» هو «النموذج» المعتمد في تأديب من يفكّر بالخروج على طاعة أصحاب الحل والربط.
فانظر حولك ترَ عجباً!
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 21/4/2008