ارشيف من : 2005-2008

..وكيف رعتنا دمشق!؟

..وكيف رعتنا دمشق!؟

الممارسة السياسية السورية لم تكن ترضينا نحن العروبيين. لقد وصفت تلك العلاقة بأنها قائمة على المصالح الآنية بين النظامين، وهي بالتالي ليست «سياسة قومية»، كما يفترض البعض، وقائمة على الإيديولوجية الوحدوية. أنا من بين كثيرين مثلي لا تخيفهم المشاريع الوحدوية حتى لو كانت بسماركية. حبذا لو كان لدى العرب بسمارك. ما يقلقنا نحن أن العروبة تتراجع لمصلحة سياسات «واقعية» أو «محافظة»، لم تعد فقط تحرس التجزئة القطرية، بل إنها ما عادت قادرة على حماية الكيانات السياسية الراهنة. لقد كانت شكوانا أننا ناضلنا من أجل الدفاع عن عروبة لبنان ودفع لبنان ثمناً باهظاً لذلك، لكن العروبة التي انتصرت كانت عروبة النظام الرسمي العربي وليست تلك العروبة التي حلمت بها الحركة الوطنية اللبنانية، عروبة ديموقراطية تقدمية منفتحة تعددية متسامحة، وهي مزيج من التحرر الوطني والعدالة الاجتماعية. لم يعد من فضل أو ميزة لأحد اليوم أن يتحدث عن أخطاء دمشق في لبنان. إن المسؤولين السوريين على أعلى مستوى يقرّون بذلك.‏

في كل حال لم نكن نريد دمشق في لبنان عسكراً وأجهزة أمنية وشركات مصالح. لقد كشفت الأيام مَن كان يريد هذه «العربنة» أو العربدة على مصالح الشعبين اللبناني والسوري. من حسن الحظ أن دمشق في دمشق وبيروت في بيروت وكذلك فلسطين، لكن من سوء الطالع أن انفضاض هذه الشراكة، التي سال منها دم غزير، وسال بين أطرافها أيضاً، انتهت كل منها إلى ذكريات موجعة وعلاقات متوترة.‏

علينا أن ننتبه دائماً أن في لبنان خوفاً من توطين الفلسطينيين ومن هيمنة دمشق على السياسة اللبنانية بل على الكيان اللبناني. بعض الخوف هو حقيقي وأكثره مخاوف زائفة. لكن المسألة أن ما كان مشتركاً بين شعوب هذا المثلث ما زال هو نفسه، الخطر من إسرائيل والحاجة إلى دمشق. ليست مصادفة إذاً أن البعض يريد أن يسقط الخطر الإسرائيلي من الحساب والحاجة إلى دمشق كذلك. نحن لا نقول هذا من باب الاتهام، بل لأننا نعتقد جدياً أن هذا البعض يريد حياد لبنان وتحييده، وهذا على الأقل ما يعنله جهاراً نهاراً. وإذا كنا نعارض هذا الفريق فلهذا الوهم وليس طعناً بالنوايا ولا تشكيكاً بالأهداف.‏

لقد خرجت دمشق من لبنان في مثل هذا الشهر تحديداً منذ ثلاث سنوات، خرجت بجيشها وأمنها والمقاولين من مسؤوليها، لكنها لم تخرج حقيقة بنفوذها. هذا هو اللغز الذي حيّر ويحيّر «الساحر الأميركي» الذي لم يجد علاجاً بعد لهذا «النفوذ».‏

ولعلنا نتساءل عن سر ما يقوله المسؤولون الأميركيون ليقنعوا أصدقاءهم في بيروت بأن لديهم وصفة فاعلة للقضاء على هذا النفوذ. سمعنا بالأمس بياناً عجيباً من فريق لبناني لأنه ينطق باسم الولايات المتحدة الأميركية ويعلن باسم إدارتها «أن أميركا لن تعود إلى منطق الصفقات على حساب لبنان».‏

لا بد إذاً أن يكون المسؤولون الأميركيون الذين يتوافدون قد طمأنوا أصدقاءهم إلى ذلك، ومصداقية أميركا في وعودها والعهود من صفاتها الحسنى، باعتبارها سيدة العالم الجديد. إنه خبر سار لكنه غير مطمئن، لأننا ما زلنا نتكل على أميركا في معالجة شؤون لبنانية، ولأننا ما زلنا نرهن العلاقات اللبنانية السورية إلى العلاقات الأميركية السورية.‏

من بداهة السياسة طبعاً أن نحسب حساباً للعلاقات بين الدول وخصوصاً أميركا، سيدة العالم، لكن من غير الطبيعي أن نربط سياستنا بذلك لأنه يخالف الجغرافيا والتاريخ والتجارب والمصالح كأن ندخل دمشق من بوابة أميركا. هكذا يفعل على الأقل رأس السلطة في لبنان اليوم حين لا يحضر قمة دمشق ويجول في سائر العواصم ليعود إلى طاولة الحوار مع دمشق أو ليعبر حدودها.‏

أمس زرت دمشق فلم أجد في الطريق حواجز أكثر مما هو قائم بين شوارع بيروت، أو بين مربعاتها الأمنية، وبين بيروت وضاحيتيها الجنوبية والشرقية، وبين جبليها الجنوبي والشمالي. لكن الأهم من ذلك أن المناسبة كانت «مؤتمر تجديد الفكر القومي العربي» حيث لم يعد هناك من عاصمة عربية أخرى يمكن أن ينعقد على أرضها مؤتمر تحت هذا العنوان، وحتى لا نظلم أحداً نحن نلبي دعوة كل دولة تتكرّم باستقبالنا باسم العــروبة ولو مخففة بالكثير من «الاعتدال».‏

سمعنا في دمشق كلاماً عن العروبة والعلمانية، عن عروبة العراق ووحدته، عن مخاطر الفتنة كبديل أميركي من الحرب، وسمعنا استعدادات لكل أشكال التضامن العربي من أجل الدفاع عن الحقوق الوطنية لشعب فلسطين. وسمعنا أفكاراً حالمة لمثقفين عن «المصير العربي» ولا نظن أننا عقدنا مؤتمراً لكي نتآمر على دمشق وقد احتضنتنا دمشق!‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 19/4/2008‏

2008-04-19