ارشيف من : 2005-2008
كيف قرأ "حزب الله" المناورات الاسرائيلية ورسائلها المعلنة وأهدافها المضمرة؟
الرئيسيين بهذا الحدث ان يكشف مضمون الرسالة، وبالتالي يفكك الغازها ودواخلها، ومن ثم يبدأ رحلة الاستعداد للرد عليها برسالة مضادة، أقرب الظن أنها ستكون من جنسها، أي جولة مناورات أخرى، يختار هو توقيتها، ويفهم من يعنيهم الامر أنه على أهبة اليقظة والتنبه واستطرادا الاستعداد، لأنه منذ البداية تعاطى والحدث على انه موجه اليه في الدرجة الاولى، وإن كان تلقى رسائل غير مباشرة بأن الامر ليس موجها ضده وضد لبنان، وتعامل معه على أساس انه مظهر عدواني تهديدي.
ومع ذلك لم يزل الحزب مقيما على اعتقاده السابق ان الكيان الصهيوني ما برح غير قادر في الوقت الحاضر على شن حرب واسعة او محدودة للثأر مما مني به في حرب تموز عام 2006، ولكن هذا الكيان بطبيعته قائم على أساس الاستعداد الدائم للعدوان على الآخر، لأن هذا الامر جزء لا يتجزأ من "عدّة" وجوده وحضوره. وبالتالي لا يمكن ألا ينظر الحزب الى هذه المناورات على أنها تأسيس لمواجهة في قابل الايام.
وفي موازاة ذلك، خلصت دوائر "حزب الله" المعنية الى قراءات للأهداف الآنية السريعة للمناورات والرسائل السياسية التي تنطوي عليها. وفي الدرجة الاولى ثمة لدى هذه الدوائر اقتناع بأن الجزء الأكبر من مضمون هذه المناورات هو رسائل موجهة الى الداخل الاسرائيلي نفسه غايته أولا الترميم النفسي والمعنوي لهذا الداخل، بعدما عاش الجمهور الاسرائيلي مدى أكثر من عام مرحلة انعدام الثقة بالقيادتين السياسية والعسكرية الاسرائيلية بفعل تداعيات حرب تموز، لا سيما وهو يرى بأم العين هاتين القيادتين، وهما تتبادلان جهارا كرة المسؤولية عن النكسات والهزائم التي لحقت بالسمعة الاسرائيلية بفعل حرب تموز وتداعياتها، وتكون القيادة العسكرية الاكثر جرأة في أخذ الامر بصدرها، فيتوالى "هرب" كبار القادة والضباط، بينما تنجح القيادة السياسية الاكثر مكابرة وعنادا في امتصاص مبكر لنتائج تقرير لجنة فينوغراد، الذي وإن أقر ضمنا بالهزيمة، فانه لم يذهب في اتجاه ادانة كاملة المواصفات للقيادة السياسية، لذا نجحت الاخيرة في البقاء في مواقعها رغم جراحها المعنوية الثخينة انطلاقا من أمرين أساسيين: الاول ان المجتمع الاسرائيلي بات أعجز من ان ينتج قيادة جديدة تأخذ زمام المسؤولية، والثاني ان المطلوب اميركيا وغربيا ألا تكتمل فرحة "الاعداء" بالنصر عبر انزعاج القيادة السياسية واتاحة المجال لسواها كما يحدث عادة مع كل تطور دراماتيكي بحجم هزيمة عسكرية ألقى تقرير فينوغراد بعض الاضواء عليها، وعتّم قصدا على أكثرها.
وثمة أمر آخر في قراءة "حزب الله" لأبعاد هذه المناورات والمقاصد الكامنة خلفها، وهو ان المناورات تستبطن فعلا سعيا لترميم ثغر أماطت اللثام عن نفسها إبان حرب تموز التي دامت 33 يوما. هذه الثغر تتصل بمجتمع ظن أنه بات في منأى عن أي أخطار عسكرية بفعل حروب خارجية، فثمة أربعة أجيال لم تمر بتجربة حروب ومواجهات واسعة على شاكلة حرب عام 1973، فاسترخى المجتمع الاسرائيلي وآثر أفراده وجمهوره ان يعيشوا في مناخات أخرى مختلفة، وإذ بهم يفاجأون بما لم تعهده شريحة واسعة منهم. لذا كان لا بد للقيادة الاسرائيلية من ان تدفع هذا الجمهور ليكون مستنفرا وجاهزاـ، فلا تتكرر أخطاء حرب تموز وخطاياها وبالتحديد عندما صار الشمال الاسرائيلي كله واقعا تحت مرمى نيران صواريخ "حزب الله" وصار أكثر من مليون ونصف مليون اسرائيلي مضطرا الى النزول الى المخابىء والعيش فيها قسرا نحو أربعة أسابيع وكان لافتا للحزب في هذا المجال أن المناورات تركزت في شكل أساسي على مواجهة صواريخ تنهمر على اسرائيل من جهة الجنوب اللبناني وليس على أي أنواع اخرى من المواجهات او الحروب.
واذا كان الحزب وكادره العسكري قد دأبوا على رصد دقيق للمناورات الاسرائيلية وفاعلياتها وصل الى حد تصوير الجزء الاكبر منها بالفيديو وارشفته تمهيدا للاستفادة من دروسها وبالتالي الاستعداد لمرحلة قد تأتي، فان الحزب يرى أن في طيات هذه المناورات رسائل أخرى موجهة الى الخارج، وبالتحديد الى الحزب. وتأتي في رأس قائمة هذه الرسائل استعادة ولو معنوية "لقوة الردع" الاسرائيلية التي كانت تثق بتفوقها وعدم قدرة أعدائها وخصومها على الوقوف في وجهها. وبهذا المعنى ثمة من يرى أن هذه المناورات نظرا الى الهالة الاعلامية التي أحاطتها بها القيادة الاسرائيلية، ونظرا الى اتساعها ومشاركة العديد من العناصر والوحدات فيها، أنما هي بديل من حرب كان يتعين على اسرائيل ان تخوضها منذ أشهر لتزيل عن نفسها وعن تاريخها آثار حرب تموز التي خاضتها وخرجت منها بهزيمة غير كاملة، ولكن بدروس ليس أقلها ان ثمة تطورات استراتيجية وتكتيكية عسكرية وأمنية يتعين عليها ان تدخلها من الان فصاعدا في حساباتها، ومن شأنها ان تبطل او تقلل من شأن معطيات عسكرية كانت حتى الامس القريب تدرج في خانة الثوابت العسكرية، كما كانت بالنسبة اليها عنصرا من عناصر الامان، ومعطى من معطيات التفوق على أعدائها.
كذلك تأتي في قائمة الاستهدافات الخارجية لهذه المناورات قطع الطريق امام "حزب الله" لمنعه من الرد على اغتيال احد قادته العسكريين التاريخيين عماد مغنية في عملية يرى الحزب ان اسرائيل نجحت عبرها في تحقيق جملة أمور لمصلحتها بضربة واحدة.
ولا يستبعد الحزب ان تكون الى جانب هذا الاجراء "التهويلي"، أهداف أخرى تتصل بالداخل اللبناني، فاسرائيل تقصدت أن يكون الجزء الأكبر من هذه المناورات على مقربة من حدودها مع لبنان، وشاءت ان يعيش معها اللبنانيون كأنها تجري على أرضهم وبين منازلهم من أجل رفع منسوب التوتر في ساحتهم العائشة اصلا تحت وطأة أزمة سياسية مستعصية دخلت عامها الثاني قبل اكثر من ثلاثة أشهر.
ولا ريب ان الجميع يدرك أن العدوان الاسرائيلي الواسع على لبنان صيف عام 2006 ونتائجه التدميرية وتداعياته السياسية، هو عنصر من عناصر تكوين هذه الازمة وبلوغها حد الاستعصاء على الحل.
ولا يفوت "حزب الله" ان يشير الى أبعاد "الربط" الذي أجرته اسرائيل بين المناورات وتهديد سوريا برد يستهدفها هي بالذات اذا ما أقدم الحزب على الانتقام من اسرائيل لاغتيالها مغنية، وتهديد ايران بضربة "ساحقة" اذا ما تعرضت لاسرائيل، فهذا الربط يراد من خلاله، إظهار "حجم المحور" الذي يناصب اسرائيل العداء ويهدد أمنها ومصيرها، وبالتالي اقناع العالم بأنها المتراس الاساس الذي يواجه هذا المحور.
وفي كل الاحوال ثمة درس أساسي خرجت به دوائر التحليل والدراسة في الحزب من رصدها الدقيق والدائم لمسار المناورات الاسرائيلية فحواه ان العقل العسكري في الكيان الصهيوني أظهر قصورا في استيعاب الدروس الميدانية التي نتجت من حرب تموز، والجديد فيها خصوصا لجهة ما أدخلته المقاومة من مستجدات على ميدان المعركة، فضلا عن ان القيادة العسكرية الاسرائيلية لم تحسب بدقة للاسلحة الجديدة التي دخلت في ترسانة المقاومة بعد حرب تموز.
فضلا عن ذلك يبدي الحزب ارتياحا الى أن المجتمع اللبناني من أقصاه الى أقصاه لم يتعامل مع المناورات الاسرائيلية باهتمام أو بموجة هلع.
المصدر: صحيفة النهار اللبنانية، 11/4/2008