ارشيف من : 2005-2008

مخارج في زمن الانتظار

مخارج في زمن الانتظار

تكاد تطوي مهلة البرلمان من انتخابات إلى أخرى. أزمة الحكم جاوزت السنوات الثلاث وهي تتفاقم محدثة آثاراً تدميرية على البنيتين البشرية والمادية لا تعوّض، هجرة وخسائر اقتصادية وانقساما نفسيا عميقا.‏

إذا كان الصراع على الحكم فلا أحد يستطيع أن ينفرد بحكم البلاد، وإذا كان الصراع على لبنان بهويته وجغرافيته وسكانه لا أحد يستطيع أن يحدث تبديلاً جذرياً فيه. هذا التمادي في التعايش مع الأزمة يستنزف البلاد ويجعلها فريسة سهلة لمشاريع الخارج ومصالحه وأهدافه. ليس من الوطنية في شيء أن يهلك لبنان في صراع يمكن أن تحكمه آليات ديموقراطية إلا إذا كان القيّمون على الأمر قد تخلوا نهائياً عن قواعد التداول السلمي والتنافس الديموقراطي وهم يؤسسون لتقاليد أخرى لا تتغيّر فيها حكومة ولا ينتخب برلمان.‏

سنة واحدة تفصلنا عن الانتخابات النيابية العامة. كيفما كان قانون الانتخاب فإن خارطة سياسية جديدة ستظهر سيكون لها تأثيرها على إنتاج السلطة فيما بعد. فلا يجوز التشبث ببعض مواقع السلطة وكأن هذا لا يقبل التعديل.‏

على أي حال نفهم وجهة النظر القائلة بارتباط أزمتنا الوطنية بالظروف الإقليمية والدولية، لكن ذلك يجب ألا يمنع من إدارة شؤون البلاد دون أن نحسم بعض الخيارات الكبرى وفي إطار المحافظة على السلم الأهلي. فإذا كان متعذراً الاتفاق على تقاسم السلطة وتوازناتها وعلى بعض الآليات الجديدة في إدارة شؤون الحكم فلنذهب إلى صيغة انتقالية ترفع النزاع من الشارع وتحرك مؤسسات الدولة وتقوم بتحضير الأجواء الداخلية لاستقبال التطورات الخارجية. ففي تجربتنا التاريخية مع اتفاق الطائف جرت بلورة القضايا الخلافية اللبنانية وهي مهمة جداً وتم التوافق عليها بالحوار والمبادرات الداخلية وجرى إقرارها لاحقاً مع التوافق الإقليمي والدولي على وقف الحرب وإنهاء الأزمة.‏

ما الذي يمنع الآن أن ينتخب رئيس الجمهورية وتشكّل حكومة محايدة انتقالية تدير شؤون البلاد في جو طبيعي وينشأ من حولها حوار وطني ريثما تنجلي الأمور التي يراهن عليها المراهنون. الحكومة الحالية لا تحكم بالمعنى الفعلي للكلمة، والمعارضة لا تستطيع أن تنتزع الاعتراف بموقع فعال داخل السلطة، هذا التعادل السلبي يجب أن يقود إلى قبول إدارة مستقلة للحفاظ على مقومات البلاد وعلى الأمل بإمكان استعادة وحدتها بصورة كاملة في أي تسوية شاملة مقبلة.‏

ما يحصل الآن هو المزيد من التفكك في بنية الدولة والمزيد من تطوير آليات التقسيم السياسي والنفسي والمزيد من فقدان الثقة بمشروع الدولة الواحدة. ولن يغيّر في الأمر شيئاً أن ترمم الحكومة نفسها بزيادة وزير أو أكثر إلى صفوفها لا على المستوى القانوني ولا على المستوى السياسي، فرصيدها هو هو في جميع الأحوال وفاعليتها هي هي والانقسام من حولها والموقف من شرعيتها لن يتغيّرا. بل إن خطوة كهذه ستفسر على أنها إمعان في تجاهل شركاء أساسيين في الوطن وتنطوي على دلالة تحكّمية أو تسلطية تؤجج الصراع ولا تعالجه.‏

إن بقاء لبنان على هذا النحو من الفراغ في المؤسسات الدستورية يطرح عليه تحديات دائمة، كتحدي حضور القمة العربية، ويؤدي الأمر تدريجياً إلى ضياع موقع لبنان في المحافل الإقليمية والدولية. إذا حضر لبنان القمة العربية أو لم يحضر ليس له الآن أن يكون مقرراً أو صاحب قضية يطرحها تعبّر عن جميع اللبنانيين. إن كل غياب في الشكل أو في المضمون هو طعن في سيادة لبنان واستقلاله لأنه انتقاص من وجود لبنان أصلاً ودوره الفاعل. وليس من المغالاة في شيء أن نراهن على دور عربي للبنان إزاء هذه التطورات العاصفة التي تفتك بوحدة المجتمعات العربية وتمعن فيها شرذمة على أسس اثنية ودينية ومذهبية وطائفية. لقد كان اغتيال مطران الكلدان في العراق دليلاً آخر على مسار يجب تلافيه لأن عدواه تنتقل بسرعة في الأجسام الوطنية الضعيفة. هذا النموذج اللبناني ما يزال يشهد لنمط آخر من بناء المجتمعات العربية فإذا اختل ميزانه وسقط كنموذج لن تصمد فكرة الوحدة الوطنية في أي بلد ولن تستطيع العروبة أن تبقى رابطة جامعة بين مجموع سكان هذه المنطقة. وعلى العكس من ذلك تتعزز كل المشاريع التي تشكل تحديات إقليمية من الجوار كما تتعزز سياسة التفكير بإعادة النظر في مقوّمات وتركيب النظام الإقليمي. وإذا كان لبنان لمناسبة القمة العربية سيقاطع المشاركة أو سيخفض من مستواها أو أهميتها وهي ستنعقد على حدوده، فلن يستطيع التواصل مع الأبعدين. لقد دخلنا في متاهات سياسية نحصد منها الضرر تلو الضرر على قضيتنا كشعب، وباتت تحكمنا الأمزجة والرهانات الشخصانية والفئويات إلى درجة يكبر معها خوفنا على ضياع لبنان لولا بعض من حكمة ومن عقلاء. إن لبنان مدعو لكي يكون أرض تلاقي العرب وصورة مستقبلهم وقد قدم لهم أكبر التضحيات وهداهم مفخرة الصمود والكرامة في مقاومة شعبه وفي إصراره على الحياة رغم تضافر السياسات الخارجية التي تستهدفه. لكن لبنان يبقى شعباً أقوى من دولته ووطناً أكبر من حجمه وعليه أن يكتشف لنفسه الدولة والدور.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، التاريخ: 25/3/2008‏

2008-03-25