ارشيف من : 2005-2008
بيروت قطعت اليد التي امتدت الى سلاح المقاومة وطردت دُعاة الجهل من شوارعها
بعد مرور ثلاثة ايام على انهيار ميليشيا تيار المستقبل في العاصمة تلقى مركز الأمم المتحدة في بيروت برقية عاجلة من المقر الرئيسي في نيويورك تطلب من العاملين التقصي عن الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان خلال أحداث بيروت الأخيرة.
كان الاعتقاد السائد في عواصم القرار الدولي ان المعارضة ارتكبت الخطيئة الكبرى في بيروت ما يستوجب معاقبتها بحزم وشدة، وأخذت هذه العواصم تصريحات قوى السلطة على محمل الجد، وصدقت التقارير الصادرة من السراي ومعراب وكليمنصو وقريطم حصول انتهاكات خطيرة بحق الناس.
وبناءً للبرقية الأممية، أجرى موظفون في الأمم المتحدة اتصالات هاتفية مع عدد من المسؤولين في المعارضة والموالاة، واستندوا في عملية التقصي الى تصريحات صحفية لمسؤولين في تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وقوى 14 شباط اتهموا فيها المعارضة بالتعدي على المدنيين والممتلكات الخاصة والعامة، وظن البعض هنا في بيروت وعواصم عربية وغربية ان فريق التقصي الدولي سيجمع من الوثائق والأدلة ما يكفي لإدانة حزب الله والسيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري ومن خلفهم جميع قادة المعارضة الوطنية كمقدمة لاصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يُجرّم هؤلاء، ويُعرضهم للملاحقة.
لم تكن المعلومات الأولية التي جمعها فريق التقصي مشجعة لصدور مواقف دولية تدين حزب الله والمعارضة، فالوقائع كذبت التصريحات، والحقائق الميدانية كان من الصعب تبديلها بالتهويل السياسي والاعلامي، والأدلة الكثيرة تؤكد ان المعارضة لم ترتكب أي تجاوزات بحق المدنيين والأملاك العامة أو الخاصة على عكس ادعاءات فريق السلطة.
حافظت مجموعات المعارضة خلال عملية مطاردة واسعة للعناصر المسلحة التابعة لتيار المستقبل على سلامة السكان والمنازل المدنية والمؤسسات العامة التابعة للدولة وعلى المنشآت الخاصة من مصارف وشركات ومصانع، ولم يحصل اي تعدّ على هيبة الدولة أو كرامات المواطنين، واستطاعت المعارضة في عملية جراحية بالغة الدقة طرد التيار المسلح للمستقبل من جميع النقاط التي كان يتمركز فيها داخل الأحياء السكنية.
بعد تنظيف بيروت من الانتشار المسلح للمستقبل والاشتراكي انتشر الجيش اللبناني فوراً في الشوارع الرئيسة، ووضع يده على مكاتب المستقبل والاشتراكي بالتعاون والتنسيق مع المعارضة التي كانت حريصة على سلامة المدنيين وممتلكاتهم وممتلكات الدولة.
حاولت قوى السلطة تصوير رد فعل المعارضة على الانتشار المسلح لتيار المستقبل في مواجهة التظاهرة السلمية للعمال، بـ"انه انقلاب على الدولة"، إلا ان الوقائع كذبت الادعاءات محلياً وإقليمياً، حتى ان عواصم غربية سألت عن طبيعة هذا الانقلاب فيما مؤسسات الدولة كافة لم تُستهدف، بل ظلت تحت حماية الجيش اللبناني، ولم تحاول مجموعات المعارضة التي استولت على منطقة تلة الخياط الدخول الى مبنى تلفزيون لبنان الناطق باسم الحكومة، ولم تقتحم الإذاعة اللبنانية في منطقة الحمرا لإذاعة بيان الانقلاب.
لم تجد لجنة التقصي ما تدين به المعارضة لجهة الاعتداء على المدنيين، وأكدت ان الخسائر البشرية المحدودة كانت في صفوف المقاتلين فقط في مناطق معينة، وقد سقطوا خلال المواجهات. كما لم تسجل مخافر الشرطة أي شكاوى من مواطنين تفيد بحصول تجاوزات طالت ممتلكاتهم الخاصة، باستثناء ادعاء تلفزيون المستقبل ان مجموعة من المعارضة أرغمته على وقف البث الأرضي والفضائي بالتزامن مع توقف جميع المؤسسات الاعلامية للنائب سعد الحريري عن العمل. لم تجد لجنة التقصي ما تسجله على المعارضة في العاصمة منذ اللحظة الأولى لاندلاع المواجهات.
ففي السابع من أيار 2008 كان أمر النائب سليم دياب المسؤول الأول عن ادارة الجناح العسكري لتيار المستقبل في بيروت بالاستنفار القتالي في جميع المكاتب والمراكز قد تم تنفيذه بدقة عالية، وفي صباح اليوم نفسه أكد النائب دياب للنائب سعد الحريري ان نحو 3 آلاف عنصر استقدم أكثر من نصفهم قبل ثلاثة أيام من المناطق تمركزوا في أكثر من خمسين مركزاً عسكرياً حساساً، فيما تم نشر البقية بحسب خطة عسكرية للإمساك بالعاصمة أولاً ومن ثم عرقلة مسيرة الاتحاد العمالي العام بأي وسيلة حتى لو اضطروا الى استخدام الرصاص.
هذا ما حدث عشية الاحتجاج العمالي، وقبل انطلاق العمال في مسيرتهم بدأت ميليشيا المستقبل حملة واسعة من الترهيب، ووزعت المنشورات ضد العمال، واستخدمت القنابل اليدوية ضد المتظاهرين، وأطلقت النار من أسلحة رشاشة على المدنيين، تزامن ذلك كله مع نشر مخبرين وعناصر مسلحة على تقاطعات الشوارع الرئيسة.
لم يكن الهدف من استنفار ميليشيا المستقبل مواجهة مسيرة العمال أو قمع الحركة الاحتجاجية التي تُطالب بتصحيح الأجور فقط، انما كان الهدف من الاستنفار هو توفير الدعم المسلح لحكومة السراي التي كانت تستعد لتجريد المقاومة من سلاح الإشارة، وهي كانت تتوقع حصول رد فعل في الشارع من قبل جمهور المقاومة والمعارضة، واتخذت الإجراءات الضرورية للرد بالنار على الاحتجاجات.
حتى لحظة اعلان بيان الحرب على المقاومة من السراي الحكومي فجر يوم السادس من أيار، بموافقة تلفونية من النائب سعد الحريري، لم تكن مجموعات تيار المستقبل تتوقع أن يستخدم حزب الله "سلاحه للدفاع عن السلاح"، وبالرغم من دعوة المعارضة الصريحة للحكومة بالتراجع عن بندي "الشبكة وشقير".
عند ظهر يوم السابع من أيار قررت المعارضة طرد ميليشيات المستقبل من جميع احياء العاصمة، وتجريدها من السلاح، وكان واضحاً لمن راقب أسلوب المعارضة في اقفال الطرق ان التيار المسلح للمستقبل لن يصمد طويلاً بعدما نجحت المعارضة في عزله داخل مربعات صغيرة، وحيدت التجمعات السكانية الكبيرة وخصوصاً في الطريق الجديدة ووطى المصيطبة وأبعدتها فيما بعد عن المواجهات المسلحة بمساعدة الجيش اللبناني.
وكما كان متوقعاً انهارت ميليشيا المستقبل، وتبخر 3 آلاف عنصر في احياء العاصمة، وفرت عناصر الحماية والأمن الخاص من أمام جميع مراكز تيار المستقبل بما فيها المراكز الاقتصادية والمالية والاعلامية.
لم تتعرض المعارضة لمؤسسات الحريري كافة باستثناء تلك التي آوت مسلحين أو سهلت الأعمال القتالية، وتؤكد المعارضة ان مجموعاتها لم تدخل أيا من المصارف والبنوك التابعة للحريري، ولم تدخل إلا الى الأماكن المتورطة في اطلاق النار، وهذا ينطبق على الوسائل الاعلامية التابعة للحريري التي تورطت في الشحن المذهبي والطائفي والتحريض على القتال. وتؤكد مصادر المعارضة ان جميع العاملين في وسائل اعلام الحريري توقفوا عن العمل بإرادتهم، وقد اتخذ قرار وقف بث اخبار تلفزيون المستقبل مدير القناة الدكتور نبيل المنلا كما صرح، وتذرع بالحرص على أرواح العاملين، وهو يعلم بأن المعارضة لم تهدد أرواح الناس أبداً، وانها استولت على جميع الأحياء في بيروت دون اراقة نقطة دم واحدة. وبحسب شخصيات مقربة من المستقبل فإن النائب سعد الحريري وجه لوماً قاسياً وصل الى حد التجريح لكل من المسؤولين عن تلفزيون المستقبل وجريدة المستقبل، وطلب منهم الصدور من أي مكان في العالم، مشيراً بأن المعارضة سيطرت على العاصمة وليس على كل لبنان، وتوعد الحريري جميع الموظفين في مؤسساته الأمنية والاعلامية، وفريقه السياسي بالمحاسبة لفصل المنتفعين والمترددين والخونة من التيار.
في اليوم التالي على مدينة بيروت من دون ميليشيا المستقبل عادت الحياة الى طبيعتها في جميع المناطق، ودخلت مع المعارضة في العصيان المدني ضد العصيان الحكومي الذي ينصب العداء للمقاومة، ويرفض الحوار الوطني والعيش المشترك. ونشطت الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني في شرح مخاطر قرارات الحكومة التي تستهدف المقاومة وسلاحها وأمنها، وجنوحها نحو الفتنة، وقامت شخصيات بيروتية مشهود لها بوطنيتها ونزاهتها وحيادها بتوجيه انتقادات لاذعة الى كل الذين ساهموا في مساعدة النائب سعد الحريري على الانحراف عن أهداف وتطلعات الرئيس رفيق الحريري، وتحويل المؤسسات التربوية الى مراكز لتجنيد الميليشيات واستقدام المسلحين من خارج بيروت ومن خارج لبنان أيضاً، واقامة معسكرات التدريب وتوزيع السلاح والمخدرات والكحول كمكافآت للمتميزين في القنص والقتل والجريمة.
نجحت الجمعيات البيروتية والفعاليات في استيعاب الخطاب التحريضي لثالوث السلطة (السنيورة، جنبلاط، الحريري) الذي قرر بدعم من مجموعة "معراب" تجريد المقاومة من سلاح الاشارة، وتبدد التحريض الاعلامي على الفتنة مع تراجع مجموعات المعارضة فوراً من الشوارع لمصلحة الجيش اللبناني الذي كان يتسلم المراكز الأمنية والعسكرية التابعة للتيار المسلح في المستقبل، وشعر الأهالي مرة جديدة بصدق خطاب المعارضة.
مرة جديدة أصيبت قوى السلطة بالخيبة وسخر الناس من لغة رئيس حكومة السراي فؤاد السنيورة، الذي أُصيب بالصدمة عندما تجاهل أهل بيروت دعوته للوقوف دقيقة صمت ورفع الأعلام اللبنانية من شُرفات المنازل تضامنا معه ومع ضحايا حربه على المقاومة.
قاسم متيرك
الانتقاد/ العدد1267 ـ 16 ايار/مايو2008