ارشيف من : 2005-2008

لما تبقى

لما تبقى

انطلق مع انبلاج الفجر إلى وجهته المعتادة، أدى صلاة الصبح في المسجد: المبنى الوحيد الذي سلم من الانهيار وسط المكان الذي يقصده.
كانت عدته البسيطة بين يديه، عصا يزيح بها الحجارة المتراكمة.. أما الكمامة فلم تكن ضمن عدته، رفض استعمالها لأسباب خاصة.
خمسة أيام انقضت على توقف العدوان، وهو منذ الدقائق الأولى لتوقفه ما فتىء يكرر عادته: يحضر يوميا، يبحث ويبحث وسط الركام، وضالته المنشودة لم تظهر بعد.. حتى ان عمال رفع الأنقاض تعاونوا كثيرا وتباطأوا في عملهم كرمى له، برغم أنهم لا يدرون حقيقة ما يبحث عنه.
بيته كان هناك، في الدور الثامن من البناء الذي كان بطبقاته العشر يكاد يناطح السحاب.. لقد تداعى وساوى الأرض، فتداعت معه حياة كان يحياها قبل العدوان..
"إلى هذا الحي انتقل قبل خمس سنوات، حديث العهد بالزواج،  وفي البيت ـ الذي كان ـ أبصرت زهراؤه النور.. في البيت وُلدت، لم تنتظر ذهاب والدتها إلى المستشفى، عجلت بالمجيء، كل جديد في حياتها حدث بين جنبات هذا البيت: صرختها الأولى، ضحكتها، خطوتها، كلمتها الأولى وشقاوتها الأولى..
اليوم السابق لبدء العدوان كان عيد ميلادها الرابع، كانت عروسا صغيرة تزهو بثوبها الأبيض وبزهرة بيضاء تعقد خصلات شعرها الناعم.. كانت زاهرة زهراؤه ذلك اليوم، كم كانت جميلة بين أترابها الصغار وهو يلتقط لها الصورة تلو الأخرى! وقبل انتهاء الحفل غادر مسرعا إلى استديو التصوير في المبنى المجاور، وخلال ساعة كانت صورها بين يديه.
تذكّر دهشتها عندما رأت صُورَها مُظَهّرة بهذه السرعة، كانت تتنقل بين رفاقها وتريهم إياها مع عبارة: "شوفو بابا سوبرمان ظهّر الصور بسرعة" يلهج بها لسانها.
"بابا سوبرمان"! لا يا زهرتي لست بالقوة الخارقة التي كنت تظنين، لقد أنهكني رحيلك المبكر، فكما عجّلت بالمجيء إلى هذه الحياة عجّلت بالرحيل.
في اليوم التالي بدأ العدوان، وبما أن البيت كائن في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي منطقة حارة حريك ـ المنطقة الأكثر إزعاجا لـ"إسرائيل"، وبالتالي الأكثر استهدافا ـ كان لا بد من المغادرة.
عند مدخل البناية وقفت زهراء تنتظر مع أمها ريثما يُخرج السيارة من موقف السيارات، وخلال دقيقة عابرة لم يكد يصل خلالها إلى حيث يوقف سيارته،  حامت طائرة حربية فوق الرؤوس وهدرت بقوة مرعبة، وما هي إلا لحظة حتى دوى انفجار كبير: لقد قصفت الطائرة الجسر المجاور.
كانت زوجته لا تزال واقفة عند المدخل، كانت تصرخ وزهراء بين يديها.. زهراء لم  تصرخ، تناولها من أمها وحملها راكضا باتجاه السيارة وخلفه زوجته، وانطلق مبتعدا.. كانت زوجته تبكي، وزهراء في حضنها صامتة، لا تبكي ولا تصرخ.. انتبه الى الأمر، ناداها، نادتها أمها، وزهراء لا تبكي ولا تصرخ ولا ترد.
زهراء كانت نائمة تحلم، والحلم طويل، ولم تستيقظ زهراء بعد.
زهراء أصيبت بسكتة قلبية نتيجة الرعب الشديد الذي أصابها لحظة الانفجار، "هذا ما أكده الطبيب".
اشتد الغبار، لقد أفرغت إحدى الجرافات حمولتها، أصابته نوبة سعال حاد، ناوله أحد العمال كمامة، فأشار برأسه رافضا، لم يكن يرغب في إغلاق مسارب التنفس لديه، كان يريد فعلا استنشاق الغبار المتصاعد، فبعض هذا الغبار بقايا جدران تنشقت أنفاس ابنته.
 انتهت نوبة السعال وعاود البحث من جديد، عمال رفع الأنقاض في استراحة قصيرة.. دعاه أحدهم لشرب الشاي فلم يلبِّ، همس العامل لزميله: بس لو بعرف عشو عم يدورّ!
وقبل أن يرشف العامل رشفة أخرى من كوب الشاي، وعيناه تنظران باتجاه الرجل، رآه يخرج شيئا من تحت الركام، يحمله بين يديه، يمسح الغبار عنه ويضمه إلى صدره.
وأخيرا وجد ضالته بعد بحث مضنٍ.. ها هي صورة زهرائه بثوبها الأبيض: عروس الحلم الجميل الذي سُرق منه، هي زاده لما تبقى من العمر.
سلوى صعب
الانتقاد/ العدد1266 ـ 9 ايار/ مايو 2008

2008-05-09