ارشيف من : 2005-2008
المادة والروح: رؤية قرآنية
لحركة الانسان في الحياة مجالان ينطوي فيهما السلوك البشري: أولهما: حركة الإنسان في الواقع المحسوس والمعاش، وما يتعلق بها من ثنائيات مختلفة في التعاطي مع الطبيعة والمجتمع يمكن أن نطلق عليها الواقعية الحسيّة للإنسان. وثانيهما: حركة الإنسان بينه وبين بارئه، أو قل جدلية العلاقة بين الوجود الإنساني المحدود والوجود الإلهي المطلق، أي بين الناسوت واللاهوت.
فالتكوين البشري مفارقة عجيبة من صنع خالق مقتدر، انه تمازج خلاّق بديع من هذين هما المادة والروح اقتضته الإرادة التكوينية للخالق تعالى، هذا الخلق البشري نجد صداه في القرآن الكريم "إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين"، يسوقنا القول هذا عن طبيعة التكوين البشري إلى حقيقتين صارختين في الواقع الأرضي للإنسان هما انعكاس مباشر للطبيعة التكوينية له، أولاهما: ميل الإنسان نحو الحياة المادية بكل تجلياتها، وهذا تحصيل طبيعي لتكوينه الذاتي من حقيقة مادية وهي الطين. والأخرى ميل الإنسان إلى التعلق بقوة ماورائية متعالية وهي الله سبحانه، وهذا الميل الفطري مرده إلى أن الإنسان في ذاته موجود ناقص غير متكامل، فتعلقه بالقوة الماورائية الأزلية الكاملة حاصل لردم الضعف والوهن الذاتي الذي يعتريه عند مواجهته للحياة وتحدياتها. فالميول الفطرية التي تتنازع النفس لا بد لها من ضابط يكون كالحوذي ليقف أمام جموح النفس ونزواتها حذر سقوط المثل والمعايير السامية. وهنا يدخل الاسلام عبر المدرسة القرآنية ليقول كلمته ضمن رؤيته الفلسفية للحياة الدنيا وامتدادها الأخروي، يدخل الإسلام لتحديد الرياسة للمنحى الروحي (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا يعقلون)، وفي آية أخرى يقول تعالى: (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله)، وذلك ليكون الله سبحانه في جوهر حركية الإنسان وأسمى غايته، فيكون منه الابتداء واليه المنتهى (وان إلى ربك المنتهى)، وفي آية أخرى (إن إلى ربك الرجعى)، وفي ثالثة (واليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه)، فالمعطى الروحي في القرآن الكريم إذا قاد زمام الأمور وسيطر على أهواء النفس ونزواتها يطهر النفس الإنسانية من درائن إثمها والضغائن التي تلوثها فتصبح نقية صافية مطمئنة تفيء إلى ظلال الانسانية الحقة المجسدة في الإنسان الرسالي. اذاً للروحانية دور المهذب والمطهر الذي يصقل النفس ويربيها تربية رسالية فتصبح أكثر قداسة وملكوتية، هكذا تحسم المعادلة في القرآن الكريم بجانب الحياة الأخروية حياة الروح، لتكون الروحانية رباناً يرشد سفينة الحياة من متاهات الضياع في خضم الأمواج العاتية ويقودها إلى الشاطئ الأمين. كل ذلك يتم ضمن بوتقة من التوازن والتكامل اللذين تفرد بهما الإسلام في أحكامه وتشريعاته، فإذا بالإسلام عبر دستوره القرآني جاء متلفعاً بالعدالة بأسمى وأنقى معانيها، فاعتبرت العدالة والتكاملية الاسلامية من مفردات الاعجاز الاسلامي ومنعطفاً بكراً في فلسفة الشرائع، فكانت للإسلام الأسبقية في ذلك على غيره من الأديان والتشريعات السابقة واللاحقة عليه، هكذا وضمن هذه التكاملية والتوازن دخل العنوانان الكبيران اللذان يسمان حياة البشر: المادة والروح، وإذا كان للروح جانب الرياسة فذلك لا يعني افراطاً فيها دون الآخر، وكذلك العكس وإلا اختلت الحياة الانسانية وانحرف المسار المرسوم لها، مسار التوازن والاعتدال، فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (ص): "ليس منا من ترك دنياه لآخرته وليس منا من ترك آخرته لدنياه"، وقال أمير المؤمنين علي (ع) "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".
والقرآن الكريم يعترف بالنزعة المادية للإنسان التي يفسرها خلقه الترابي يقول تعالى (وتحبون المال حباً جماً) (وإنه لحب الخير لشديد)، (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة)، لا بل ان القرآن الكريم يدعوه إلى تنميتها يقول تعالى (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه)، ولكن القرآن الكريم إذا دعا إلى تنميتها فإنه في المقابل دعا إلى تهذيبها وضبطها، فإذا جوّز التكسب المادي للإنسان نراه يفرض عليه التزامات، وحقوقاً لا بد من تأديتها مما اكتسبه، إذ في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم، وإذ أحلّ البيع فإنه حرم الربا (أحل الله البيع وحرّم الربا)، وكذلك في المأكل والمشرب فقد أمرهم تعالى بألا يسرفوا، وفي حياتهم الجنسية فإذا زين لهم حب النساء فقد أمروا بألا يزنوا، وهكذا فقد أمرهم تعالى بالانفاق وعدم البخل قال تعالى: (وأنفقوا من قبل أن يأتي أحدكم الموت)، وقال تعالى (ومن يوقَ شُحّ نفسه فأولئك المفلحون)، إلا أنه ومن جهة ثانية أمرهم بالاعتدال والتوازن في ذلك (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً)، وهكذا يتم تهذيب هذه النفس ضمن قواعد وأسس تشريعية معينة حتى لا تنفلت هذه النزعة من زمامها فتنقلب من مصلحة الإنسان وخيره إلى تعاسته ووباله، نعم، إن الإسلام يريد أن يبني الإنسان المتوازن المعتدل في أموره، الإنسان الذي يأخذ بأسباب الروح كما أنه يأخذ بأسباب المادة شرط ألا تخرج عن جادة الروح، كل ذلك لكي يرتقي بالوجود الانساني عبر عملية كدح دائبة نحو غاية الغايات، نحو الكمال اللامتناهي، نحو الله تعالى في مسيرة تكاملية من التطور الخلاّق حتى تبلغ النفس البشرية ذروة كمالها وكمال إنسانيتها (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه)، ويقول تعالى (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)، وهنا يتحقق عندها الانسان الذي يحمل الأمانة التي أشفقت السماوات والجبال من حملها، إنسان الخلافة لله في أرضه، يقول تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..).
السيد علي محمد جواد فضل الله
الانتقاد/ العدد1266 ـ 9 ايار/ مايو 2008