ارشيف من : 2005-2008
لماذا لم تمتد النار الى المناطق المسيحية؟
بشّر بعض الموالين بعودة الحرب الاهلية الى لبنان وروّجوا للفتنة، بل سعوا اليها مطلقين المواقف المذهبية التحريضية، الا ان المعارضة الوطنية اللبنانية تصرفت في هذه الازمة كما في كل المواقف السابقة، على انها "أم الصبي"، فعملت على تصويب الصراع وردّه الى حقيقته: صراع سياسي بين موالاة ومعارضة ينضوي تحت راية كل منهما مذاهب وأديان مختلفة. هذا في السياسة، أما في الأمن، فقد أطلق الاعلام المغرض على ما قامت به المعارضة صفة "الانقلاب"، لكن الثابت على الارض ان المعارضة لم تشأ التصرف كما تصرفت الموالاة طيلة ثلاث سنوات، من سيطرة وتهميش واستئثار، بل قامت بتنظيف الاحياء والشوارع من القناصين وقطاع الطرق وحاملي السلاح المرتزقة، وسلمتها الى الجيش اللبناني ليحفظ الأمن.
وقد تجلى المشهد في بيروت على الشكل التالي: خلال ساعات معدودة استطاعت بيروت "الغربية" ان تنفض عن نفسها ثوب الاختطاف، وأظهرت ان مدّعي التكلم باسمها لسنوات لم يصمدوا ساعات أمام زحف الأهالي الذين عادوا يستردون قرار بيروت الحر.. بينما اختلف المشهد العسكري والأمني على الأرض في باقي المناطق، وكان التفاوت الأبرز بين قسمي بيروت: الغربي والشرقي. فالمناطق المسيحية من بيروت وضواحيها شهدت هدوءاً تاماً لم يخرقه سوى بعض الاعمال الصبيانية، كرمي قنبلة صوتية في الجديدة وإلقاء قنبلة جانب مركز التيار الوطني الحر في الضبية. وباستثناء هذه الاحداث التي لا قيمة لها ولم يردّ عليها التيار، فإن الوضع في المناطق ذات الغالبية المسيحية لم يشهد أي أعمال عنف او مظاهر مسلحة كما حصل في معظم الأراضي اللبنانية.
وإذا أردنا ان نحلل بواقعية الاسباب التي كانت وراء هذا الهدوء الأمني في المناطق المسيحية، فإنه يمكن ان نوجزها بالامور التالية:
- التفاهم الموقع بين التيار الوطني الحر وحزب الله الذي شكل دعامة اساسية للسلم الاهلي منذ نشوئه، وأثبت مرة بعد مرة وفي كل مرحلة مصيرية أنه الداء الناجع للحساسيات والتوترات التي تنشأ على الارض في الكثير من المناطق اللبنانية.
- استفادة المعارضة اللبنانية من تجربة 23 كانون الثاني 2007 لمعرفة أي خصم تواجه، وتبيان مخططاته وقدرته على الدفع بالبلاد نحو الأسوأ.. ان الخصم "المسيحي" للمعارضة معروف وتاريخه الاجرامي يشهد عليه، لكن ادعاءات البراءة والطهر والقداسة التي صبغها مناصرو جعجع عليه بعد خروجه من السجن كشفتها المؤامرات والمخططات التي فضحها الإعلام العربي والإسرائيلي، وأكدتها أحداث الإضراب الدامي عندما قامت عناصر من القوات اللبنانية ومرافقي فارس سعيد بالاعتداء على المتظاهرين العزل، وإطلاق الرصاص غدراً على مارك حويك وسهام سالم وجورج فرح. من هنا فإن المعارضة بأطرافها المسيحيين اتعظت من التجربة، وهي الآن في أيار 2008 لم تعد كما كانت عليه في كانون الثاني 2007، بل باتت مستعدة لأسوأ الاحتمالات، وهذا تعرفه القوى الموالية جيداً.
- اتخاذ التيار الوطني الحر موقفاً واضحاً وصريحاً بأنه لن يسمح لأحد بأن يجره الى فتنة داخلية في الصف المسيحي من أجل تخفيف الضغط عن حلفائه "المستقبل والاشتراكي"، لذا قرر عدم الرد على الاستفزازات. وهكذا فإن قررت القوات اللبنانية الحرب فلن تجد من ينزلق لمحاربتها، وذلك انطلاقاً من المبدأ القائل: "الحرب بحاجة لطرفين، أما الإجرام فلطرف واحد".. ولكن مع تأكيد حق الدفاع المشروع عن النفس الذي تكفله جميع الشرائع السماوية والقوانين الوضعية.
- رغبة عميقة لدى الأهالي بعدم تكرار تجربة التسعينيات التي ما زالت ماثلة في أذهان المسيحيين، والتي لم يسلم من تشظياتها منزل او عائلة او حي. ان مأساة التسعينيات التي دفع اليها جعجع بتحريض من الأميركيين، كلفت المسيحيين ثمناً سياسياً وعسكرياً باهظاً، وأخرجتهم مهزومين من المعادلة السياسية اللبنانية، ما سمح بتهميشهم واقتناص الصلاحيات المعطاة لهم في النظام السياسي اللبناني.
في الخلاصة، لقد حاولت بعض الإشاعات اخافة القاطنين في المناطق المسيحية من مد شيعي قادم سيجتاح مناطقهم، لكن الوعي السياسي وتأييد الغالبية المطلقة من المسيحيين للتيار الوطني الحر وتفاهمه مع حزب الله، دفن الشائعات في مهدها. وقد ظهر ان الهواجس التي تنتاب المسيحيين في "المناطق الشرقية" ليست من اجتياح مزعوم لحزب الله لمناطقهم، بل كان الخوف الوحيد من كون جعجع لم يتعظ من التجارب السابقة ومما قام به من تهجير وما سببه من مجازر للمسيحيين، وعدم ثقتهم بأنه سيوفر المناطق المسيحية عن مؤامراته واتفاقاته التي عقدها مع القوى الخارجية.
ليلى نقولا الرحباني
الانتقاد/ العدد1267 ـ 16 ايار/مايو2008