ارشيف من : 2005-2008
تقرير عن اللحظات الأخيرة قبل الولادة الصاعقة لاتفاق الدوحة ... ومواقف الأطراف
حيث كان الجميع، قادة ومعاونين وصحافيين ومرافقين يتبادلون التهاني وسط سعادة بالغة كان يستشعرها المضيفون القطريون الذين استشعروا شيئاً من الزهو بالإنجاز التاريخي الذي سيحمل اسم بلادهم وقيادتهم التي تثبت، يوماً بعد يوم، فرادتها حنكة بل دهاء يمكنها من أن تنجز «ما لم يستطعه الأوائل» وفيهم دول كبرى ومتوسطة، شقيقة وصديقة وبين بين...
كان المضيفون يتلقون اتصالات التهنئة والتبريك من عواصم طالما حالت صراعاتها وأغراضها بين اللبنانيين ووحدتهم الوطنية... كذلك كانوا يتلقون الشكر والتقدير من هيئات وتنظيمات وجمعيات فضلاً عن وجوه الجالية اللبنانية في قطر التي ارتفع تعدادها الآن إلى نحو خمسين ألف مواطن.
وحين انهالت علينا الاتصالات تستوثق من بشرى نجاح المؤتمرين، وتبادلهم التحيات، وأحياناً القبلات، سمعنا ما يشبه الزغاريد، وكثيراً ما غص المهنئون بدموع الفرح وقد كانوا يحسبون أن أيام المحنة التي عاشتها بيروت قبل أسبوع فقط، قد أنذرتهم بكارثة وطنية عظمى تحمل عنواناً مخيفاً: الفتنة!
سبحان مبدّل الأحوال: ها هم القادة الذين إلى ما قبل ساعات قليلة، يتجنبون التلاقي، وينظر بعضهم إلى البعض الآخر شزراً، يتصافحون، بينما أعضاء وفودهم يتبادلون القبلات التي نال منها كل من صادفوه نصيباً، بمن في ذلك رجال المراسم والأمن... وحتى بعض رجال الأعمال ممن كانوا يعبّرون من خلال العناق اللبناني الملتهب!
في «الدفنة» التي أضافت أرضاً جديدة إلى مساحة الدوحة تمّ دفن الفتنة في لبنان، ومنها أعيد إحياء الحوار الوطني تمهيداً لانتخاب الرئيس الجديد للجمهورية، المتوافق عليه منذ ستة شهور، ولتشكيل حكومة وحدة وطنية استهلكت جهود الجامعة العربية لمدة واحد وعشرين شهراً طويلاً، ولقانون عتيق مجدّد للانتخابات النيابية يعيد الناخب اللبناني حوالى نصف قرن إلى خلف... الديموقراطية!
في الدوحة أمضى الجميع الليل ساهرين، يجادلون فلا يتعبون، مع أن الأمر الوحيد الذي كان مطروحاً بالفعل للنقاش، منذ صباح السبت الماضي، هو: تعديل «التوازنات» في بعض دوائر بيروت الانتخابية بترحيل بعض الكتلة الأرمنية من الأولى إلى الثانية وبالعكس!
وفور عودة أمير الدولة، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني من مشاركته في المؤتمر التشاوري لدول مجلس التعاون الخليجي في الدمام، جاء ليلقي بثقله إلى جانب رئيس حكومته الشيخ حمد بن جاسم بن جبر... فأمضى الساعات يناقش، يطمئن الخائفين من أي تعديل في موازين القوى، ويسترضي بعض من أغضبه «خصمه»، أو محاولة تقليص حجمه السياسي. وكان عليه أن يخص العماد ميشال عون بوقت إضافي لطمأنته إلى أن «حقه» سيحفظ، وبضمانته.
كانت أشباح الدول تطوف في أرجاء الفندق العريق... متجاوزة ممثليها الرسميين، ولا سيما السفراء.
لكن لقاءات الدمام، وأخطرها لقاء أمير قطر بالقادة السعوديين، نشرت جواً من التفاؤل الذي لا يصعب تفسيره على اللبنانيين، ومن هنا فإنهم اعتبروا أن الأمير قد عاد بالمباركة المطلوبة للجهد الذي تبذله مع بلاده سبع من الدول العربية بوزراء خارجيتها إضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى ومعاونيه.
هدأت عواصف الخارج، فإذا قادة الأطراف السياسيين يتوجهون إلى قاعة المؤتمرات الملحقة بالفندق، عبر نفق طويل، ولكنه أنيق، وليس مثل النفق الذي كان محاصراً فيه لبنان بمخاطر الفتنة إلى ما قبل أيام قليلة.
كانت الأنظار تتركز على المحورين الآتيين للتلاقي من على بعد: الرئيس نبيه بري ووفده ومعه وفد «حزب الله» الذي يضم رئيس كتلته النيابية محمد رعد ومعه النائبان محمد فنيش وحسين الحاج حسن، ومن الجانب الآخر رئيس تيار المستقبل سعد الحريري ومعه الرئيس فؤاد السنيورة وعدد من نواب بيروت، أساساً، ثم سائر ممثلي 14 آذار.
وكان لمن يحسن القراءة أن يقدّر أن هذا اللقاء يمهّد، بالضرورة، للقاء أساسي طال انتظاره بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر وسعد الحريري، والمتوقع حصوله قريباً جداً.
فأما وليد جنبلاط فقد أخرج نفسه، وفي بيروت وقبل التوجه إلى الدوحة، من حومة الصراع الذي كان السبب المباشر في اندلاعه، ووضع نفسه في موقع «المحايد» بل الوسيط غير العلني في بعض الحالات.. لا سيما بعدما تلقى «مكافأة» سخية من حليفه «القوات اللبنانية» التي وقف مندوبها في لجنة الانتخابات يطالب بتقسيم الشوف إلى دائرتين!
وأما الوزير محمد الصفدي الذي كان يحاول تمييز نفسه بموقف تصالحي فقد اندفع إلى حد المطالبة بحكومة حيادية، عندما أهملت دعوته إلى بعض الاجتماعات المقررة لما هو مقترح من مشاريع حلول...
كذلك كانت حال بطرس حرب، الذي سبق وبادر إلى تمييز موقفه وموقعه، دون أن يخرج تماماً من 14 آذار، فإنه كان حريصاً على إظهار استنكافه عن المشاركة في بعض الاجتماعات التي كان يراها هدراً للوقت.
وأما الرئيس أمين الجميل فقد كان يحاول عبثاً أن يجد لنفسه دوراً، فلا تتسع له مساحة الخلاف، ولا هو مقبول بوسيط، فاكتفى بأن يظهر نفسه «بديلاً حاضراً»، إذا ما انفرط عقد «المتفاهمين» من دون وساطته، أو الساعي بالخير، إذا ما احتاجه الموقف..
فأما غسان التويني فقد عاد صحافياً، يمضي وقته في تقصي الأخبار، مدركاً ومطمئناً إلى أن ما كتب قد كتب، وأن المؤتمر لا بد سينجح، وأن الأطراف الأساسيين لن يعودوا بغير اتفاق، مقدراً لقطر شجاعتها في الاقتحام المحسوب، فالمسؤولون فيها قد يغامرون أحياناً، لكنهم لا يقامرون.
عندما سبق المؤتمرون مضيفهم أمير قطر إلى تلك القاعة الأنيقة ليتخذوا مقاعدهم من حول الطاولة المستديرة، ومن خلفهم أعوانهم وأهل المشورة، كانت ابتساماتهم تتقدمهم: كانوا يقدّرون أن اتفاقهم لن يسهم في إعادة تركيب الدولة بترميم مؤسساتها فحسب، بل إنه قد أخرجهم جميعاً من مأزق خطر إذ استشعروا أنهم كانوا سيعتبرون مسؤولين عن فتنة عظمى كانت قد أطلت بقرنها مهددة البلاد وشعبها فكيف بنظامها؟!
أما أمير قطر فقد دخل القاعة واثق الخطوة، وألقى خطابه واضح العبارة، ثم استمع إلى كلمات الممثلين الرسميين «للصراع»، قبل أن يعطي الكلام للأمين العام للجامعة عمرو موسى، ثم انتبه إلى أهمية بعض اللقطات فاحتضن بري والسنيورة ودفعهما إلى تبادل القبلات، ثم شهد على مصافحة كانت ضرورية جداً لفتح الباب لما هو أعمق أثراً بين سعد الحريري ورئيس وفد «حزب الله» محمد رعد... وقد نال العناق كما هذه المصافحة أطول تصفيقين بين «تظاهرة التصفيق» التي ترددت أصداؤها في بيروت.
سيكون لنا رئيس للجمهورية، إذاً، يوم الأحد المقبل اسمه قد تكرر في أسماع العالم حتى صار معروفاً لكل الناس: العماد ميشال سليمان.
وستكون لنا حكومة اتحاد وطني جديدة، سيكون استيلادها عسيراً، لأن فيها ستتبدى الإشكالات ومحاولات تعويض الخسائر أو تثبيت الأرباح، وإن كان الكثيرون يتمنون ألا تعترضها عمليات كيدية للتعطيل، بقصد تسجيل المواقف التي قد تحفظ الجو الطوائفي لضرورات انتخابية.
ولسوف يعاود المجلس النيابي القيام بدوره الطبيعي، وإن كان بين أصعب مهامه إعادة تكوين المجلس الدستوري، بما يختزنه تعطيله من إشكالات، وما تستتبع إعادة تشكيله من تحالفات.
وسيكون المسرح مهيأً للمناورات والضغوط لحفظ «حصص» على حساب «حقوق الغير»، وربما لهذا السبب تفرّد سمير جعجع بتسجيل «مع التحفظ» إلى جانب توقيعه على وثيقة إعلان الاتفاق...
أما الدول فقد تزاحمت في إعلان مباركتها الحارة (كمثل السعودية التي عاد سفيرها ليلاً إلى بيروت، وفرنسا، التي تردد أن رئيسها نيكولا ساركوزي قد يجيء مهنئاً مباشرة بعد جلسة القسم)، أو ترحيبها «الطبيعي» كمثل سوريا وإيران وسائر الدول العربية، وتهنئتها على هذا النجاح كمثل ألمانيا وأسبانيا والأمين العام للأمم المتحدة.
ولسوف يكافأ بعض القياديين، وبالذات العماد ميشال عون ووليد جنبلاط وربما سمير جعجع بدعوات لزيارة بعض الدول العربية «لشكرهم على انخراطهم في العملية السياسية لاستنقاذ لبنان (والمنطقة) من خطر الفتنة الداهم، خصوصاً أن له «منابع» متفجرة في العراق، وله «طلائع منذرة بالخطر» في البحرين والكويت وصولاً إلى اليمن...
لكأنما افتدي لبنان بشهدائه الذين سقطوا في بيروت فنبّهوا الجميع، في المعارضة كما في السلطة، إلى أن الانشغال بحسابات الربح والخسارة، أو بأوهام الانتصار على الذات، لن يؤدي إلا إلى تدمير الذات...
وعسى هذا الفرح الذي تفجر في بيروت وسائر أنحاء لبنان يكون بشارة خير في عهد جديد للبنان خارج مخاطر الفتنة التي علينا أن نتدخل لمنع من يوقظها لا أن نكتفي فقط بأن نلعنه جهراً أو سراً... وأن نفضحه حتى لا يعرّض البلاد لامتحانات جديدة قد تذهب بها.
المصدر: صحيفة "السفير"