ارشيف من : 2005-2008
يا فقراء العالم: موتوا جوعاً لكي يأكل الأغنياء!
لا يكاد يمر يوم جديد دون أن يسجل النفط ارتفاعاً جديداً في سعر البرميل. فبعد أن كان هذا السعر في حدود سبعين دولاراً قبل شهرين، أصبح الآن في حدود 125 دولاراً، وهنالك من يقول بأنه سيستمر في الارتفاع حتى مئتي دولار، من دون أن يعني ذلك أنه سيستقر عند هذا الحد. لكن هذا التوصيف هو، على وضوحه وبساطته، من نوع "مضادات الحقيقة" الشبيهة بقول من يقول بأن الشمس تدور حول الأرض، بدليل ما تشاهده العين. فالحقيقة أن ما يجري ليس ارتفاعاً في أسعار النفط، بل انخفاض في أسعار الدولار، العملة الوحيدة المستخدمة في تداولات السوق لأسباب ترتبط بالهيمنة السياسية والاقتصادية الأميركية التي بدأت بفرض نفسها على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً منذ انهيار نظام القطبية الثنائية. أما الدليل على وجود مفارقة غير مفهومة في ارتفاع أسعار النفط فيتمثل في التوازن القائم فعلاً بين العرض والطلب. فمصادر أوبك تؤكد أن البلدان المصدرة تضخ كميات تغطي احتياجات السوق، إضافة إلى إنتاج ثلاثة ملايين برميل يومياً يتم رصدها كاحتياطي للطوارئ. ومع هذا، لا يكف الأميركيون عن ممارسة شتى أنواع الضغوط على البلدان المصدرة لدفعها إلى زيادة الإنتاج بهدف تعزيز المخزون الأميركي. والحقيقة أن أوبك قد استجابت إلى هذه الضغوط، في أيلول/ سبتمبر الماضي، عندما وافقت على إنتاج 500 ألف برميل إضافية يومياً، وإن كانت قد رفضت مواصلة هذه السياسة في اجتماعاتها اللاحقة. ومن المنتظر أن تشهد أوبك في القريب عراكاً حامياً بسبب رغبة بلدان مصدرة كالسعودية بالرضوخ للضغوط الأميركية.
أما الأواليات التي يتم من خلالها انخفاض سعر الدولار فهي من الأمور التي تتضارب حولها تأويلات المحللين الاقتصاديين والتي تفضي، على تضارب التأويلات، إلى التسليم بحقيقة معروفة مفادها أن الدولار (الاقتصاد العالمي بات مدولراً بشكل كاسح) يستخدم كسلاح في الحرب الاقتصادية. ما يعني أن ارتفاعه وانخفاضه إنما يعودان إلى تلاعبات تعود بالفائدة، على طريقة المنشار وتبعاً لتنوع الظروف، على الاقتصاد الأميركي، أي بالضرر على سائر الاقتصادات، مع الإشارة الى أن أشد الأضرار إنما تلحق بالاقتصادات الأشد ضعفاً وهشاشة. وما يقال عن النفط، يقال أيضاً عن سائر المواد والسلع. أي أن الارتفاع الحالي في أسعار المواد الغذائية على المستوى العالمي، ليس ارتفاعاً في أسعار تلك المواد بقدر ما هو انخفاض في أسعار الدولار. أي أنه شاهد على تحول الطعام أيضاً إلى سلاح في الحرب الاقتصادية بمفاعيل مشابهة لمفاعيل الدولار، خصوصاً على الاقتصادات الأشد ضعفاً وهشاشة. وهذا هو السبب في كون انتفاضات الجوع أو أعمال الشغب التي شهدها العالم مؤخراً إنما حدثت وتحدث في بلدان كمصر ونيجيريا وهايتي والفيليبين وإندونيسيا وغيرها. فالواقع أن أسعار مواد أساسية كالقمح والأرز والألبان واللحوم والزيوت قد ارتفعت بنسب تزيد عن مئة بالمئة خلال الأشهر القليلة الماضية، ما يضع ملايين الآدميين في حالة عجز فعلي عن تأمين الغذاء اليومي. صحيح أن أصواتاً "إنسانية" كثيرة ترتفع لشجب هذا الواقع الذي يضاعف أعداد ضحايا الجوع (أربعون مليوناً في السنة وفقاً لبعض التقديرات) بالتوازي مع تضاعف قيمة الأسعار. إلا أنه من الصحيح أيضاً أن هذا الواقع يصب في مصلحة من يستخدمون أزمة الغذاء كسلاح في المعركة الاقتصادية. ويبرز هذا الاستخدام على مستوى التحليلات التي تفسر الأزمة انطلاقاً من المبالغة في التركيز على أسباب كازدهار الزراعات المرتبطة بإنتاج الوقود الحيوي، أو كمشكلة المناخ، أو كلجوء بعض البلدان إلى الحد من تصدير المواد الأساسية أو، على ما تقوله مستشارة ألمانيا، أنغيلا ميركل، إلى تغير العادات الغذائية في بلدان كثيفة السكان، كالهند أو الصين: أبدت ميركل هلعها إزاء حصول 300 مليون هندي على وجبتين من الطعام يومياً بدلاً من وجبة واحدة، و100 مليون صيني على كوب من الحليب يومياً بدلاً من لا شيء، على أساس أن هذا التطور يشكل تهديداً للاحتياجات الغذائية لـ400 مليون أوروبي. لكن كل هذه الأسباب تندرج ضمن إطار التسميم المعرفي الهادف إلى طمس الحقيقة المتمثلة بالتدمير المدروس للقطاعات المنتجة في العالم الثالث بجهود المؤسسات المالية العالمية وعمليات التواطؤ المحلية، بما فيها انسحار الناس جميعاً بالجانب الاستهلاكي بنمط العيش الأميركي.
ماذا عن الحلول؟ بنتيجة آلاف التحليلات التي يقوم بها آلاف الباحثين على مدى سنوات، تطالعنا حلول تندرج كلها تحت عناوين المساعدات. مساعدات عينية مباشرة ربما تطال عشرات الملايين من أصل مئات الملايين من الجياع. مساعدات مالية يضيع جلها بين المانحين والوسطاء. مساعدات بالبذور والأسمدة والخبرة العلمية هدفها تأبيد التبعية، أي في العمق تعميم الحل الذي يمكن استنباطه من وجهة نظر ميركل: على فقراء العالم أن يموتوا جوعاً لكي يأكل الأوروبيون والأميركيون. ولا كلمة واحدة عن مساعدة الناس لأنفسهم عبر العودة إلى شكل الحياة الطبيعي والأصيل. الشكل الذي لا تزال بعض بقاياه موجودة في مجتمعاتنا... لحسن الحظ.
ع.ح.
الانتقاد/ العدد1267 ـ 16 ايار/مايو2008