ارشيف من : 2005-2008
الزيارة الخامسة عشرة لرايس: تأنيب العرب والضحك على الفلسطينيين
لا تدلل الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الاميركية كونداليزا رايس الى المنطقة سوى عن حجم المأزق الذي تعانيه الولايات المتحدة في ملفاتها الساخنة، بحيث يظهر يوما بعد آخر ضيق الخيارات التي يمكن ان تعود بنتائج ايجابية ليس على الادارة الحالية، بل على مجمل الامبراطورية الآفل نجمها. ويبدو ذلك من حجم الطموح الذي يراود جورج بوش قبيل مغادرته البيت الابيض مطلع العام القادم، وهو التوصل الى اتفاق سلام اسرائيلي فلسطيني ولو شكلياً ينهي به ولايته بعد ان اكتشف متأخراً ان المصدر الجوهري لصراعات الشرق الاوسط المؤثرة بشكل استراتيجي على المصالح والقوة الاميركيتين هي القضية الفلسطينية التي اهملها طوال سنيّ ولايتيه.
ولهذه الغاية بات سفر رايس الى المنطقة يشبه التنقل بين بيتها ومكتبها في الخارجية، وهي المنتدبة لاخراج حل لمن صعد نجمها وبوّأها هذا المنصب، فحملت زيارتها الاخيرة الرقم 15 في اقل من عامين، مع توقع بزيادته ما دام ان المهلة المتبقية على انجاز شيء ما قصيرة جدا قياسا الى حجم التعقيدات.
وبمعزل عن الجانب اللوجستي المتصل بالتحضير لزيارة بوش الى المنطقة في الخامس عشر من الجاري للمشاركة في احتفالات "اسرائيل" بذكرى ستين عاما على انشائها، كمؤشر على استمرار الرعاية الاميركية لهذا الكيان الغاصب الذي يعاني ازمة وجودية غير مسبوقة تهدد بقاءه، واحساسا اسرائيليا متزايدا بان الاجل السياسي يقترب خصوصا بعد النتائج الكارثية التي جرها عليهم عدوان تموز والاخطار الوجودية الذي تحيط بهم بدءا من ايران مرورا بغزة فضلا عن لبنان، فان رايس اتت في محاولة لتفعيل المفاوضات التي اطلقت بعد مؤتمر انابوليس مباشرة ويقودها كل من وزيرة الخارجية الاسرائيلية تسيبي ليفني ورئيس الوزراء الفلسطيني السابق احمد قريع، وتجري بسرية بعيداً عن الاضواء، على غرار تجربة اوسلو حتى لا يؤدي التسريب الى وضع حد للتنازلات التي يمكن ان يقدمها الوفد الفلسطيني.
وفي زيارتها الاخيرة بدا ان رايس تحاول من خلال عملية دعائية مكشوفة اظهار قدر من الحياد لاغراء الجانب الفلسطيني بالمضي قدماً في التجاوب مع رغبة بوش بتحقيق شيء ما لمصلحته الشخصية، ولذلك اطلقت سلسلة من التصريحات تحدثت فيها مثلاً عن الحواجز التي يجب ان ترفع وتؤثر ايجابا على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، داعية اسرائيل الى الالتزام بما تعهدت به من رفع لواحد وستين حاجزا اقدمت حتى الان على رفع اربعة واربعين منها، اكدت تقارير الامم المتحدة انها ليست ذات تاثير مهم على نشاط الفلسطينيين، لان الحواجز الرئيسة التي تعيقهم لا تزال قائمة. وتحدثت رايس في تصريحاتها عن النوعية وليس الكمية، وحاولت ان تظهر اسلوبا جديدا من المتابعة عبر ايكال مهمة مراقبة رفع الحواجز الى موظفين من السفارة الاميركية لدى اسرائيل.
كما حاولت ان تبدو محايدة بدعوتها الجانب الاسرائيلي الى الالتزام بمتطلبات خارطة الطريق فيما يتعلق بوقف الاستيطان، واستصدرت لذلك دعوة من اجتماع اللجنة الرباعية في لندن بهذا الشأن وهي في طريقها الى فلسطين المحتلة، لكن الحكومة الاسرائيلية كالعادة تعاطت بخفة مع هذا الموضوع، سواء في التعقيب او في الاستمرار في اعمال البناء في المستوطنات بعدما كانت اجرت مناقصة لبناء مئة وحدة سكنية خلال نيسان الماضي بالتزامن مع استمرار المفاوضات.
لكن رايس التي مددت محادثاتها والتقت اضافة الى ايهودا اولمرت وجمعته مع محمود عباس واجتمعت اربع مرات مع وزير الحرب ايهودا باراك والتقت الاخير بحضور رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض، كما عقدت لقاء مشتركا مع ليفني وقريع، كل ذلك لم يؤد الى حصولها على تعهد اسرائيلي بشأن رفع فعلي للحواجز في الضفة الغربية او وقف الاستيطان فيها، واكتفت بالاشادة بمسار عملية التفاوض نافية سعيها لنشر وثيقة عن أي تقدم يحصل.
لكن اللافت في كلام رايس هو تصويبها هذه المرة على الدول التي لا تقدم للفلسطينيين ما تلتزم به من اجل تحسين حياتهم، وهي جاهرت بانتقاد ما اسمته تقاعس بعض البلدان العربية الغنية عن دفع الاموال التي وعدت الفلسطينيين بها،
متهمة هذه البلدان بالسعي الى "دفع اقل ما يمكن". ولم تسم رايس اي بلد، لكن مسؤولا كبيرا في وزارة الخارجية ذكر الكويت وقطر وليبيا. وبدت رايس في تصريحها هذا تمارس ابتزازا مكشوفاً باعتبار ان على هذه الدول العربية ان تساعد في الحل الذي يريد ان يتربع على عرشه جورج بوش، وليس حرصا على الفلسطينيين او تعاطفا معهم، لان واشنطن على مر الصراع القائم لم تطلق مثل هذه الدعوة وهي التي اتخذت اجراءات عقابية مالية واقتصادية ضد منظمة التحرير الفلسطينية فيما تغدق مليارات الدولارات سنويا على اسرائيل كمساعدات عسكرية واقتصادية.
وبمعزل عما يمكن ان تكون حققته رايس في لعبة العلاقات العامة، فان التوقعات لا تشير الى احتمال احداث اختراق جوهري، بل يبدو ان الطموح هو التوصل الى اتفاق حول معالم الدولة الفلسطينية قبل نهاية كانون الثاني/ يناير 2009، وفي هذا السياق كشف مسؤول فلسطيني لوكالة الصحافة الفرنسية ان الادارة الاميركية بدأت العمل باتجاه التوصل الى "اتفاق اطار" لتعريف الدولة الفلسطينية يشكل "الاحرف الاولى لمعاهدة السلام" بين اسرائيل والفلسطينيين، موضحاً ان اتفاق الاطار هذا يتضمن تعريفاً للقضايا الرئيسية للحل النهائي، وهي القدس والحدود واللاجئون والاستيطان والعلاقات والامن والاسرى، حتى ولو من دون ضمانات اميركية او دولية، مع الاشارة الى انه حتى لو حصلت مثل تلك الضمانات فان لا شيء يلزم اسرائيل بتطبيقها، ولديها القدرة على التنصل منها دون أي مساءلة دولية.
لكن حتى هذا الطموح دونه عقبات كثيرة، فرايس جاءت في وقت يواجه فيه اولمرت فضيحة فساد جديدة اجمعت مختلف التقارير الاسرائيلية الداخلية انها كفيلة باطاحته، وفرط ائتلافه الحكومي الضعيف اساساً، لذلك الغى كل المقابلات التي كانت مقررة لمناسبة الذكرى الستين لانشاء "اسرائيل"، وبالتالي فان ذلك يفتح الباب امام تطورات داخلية اسرائيلية من شأنها اعادة الامور الى الوراء، فضلا عن ان ما يجري حالياً لا يعكس أي تقدم، برغم محاولة فريق اولمرت اشاعة اجواء بهذا الشأن للتغطية ربما على الفضيحة الجديدة، حيث تحدثوا بعد لقائه عباس عن "تقدم كبير" في المفاوضات، لكن الجانب الفلسطيني كان اكثر تحفظا، وفي هذا السياق ذكرت اذاعة الجيش الاسرائيلي ان الاسرائيليين والفلسطينيين يتمسكون بمواقفهم حول قضية لاجئي 1948 ولم يحققوا اي تقدم على هذا المستوى، كما ان عباس "ابلغ اولمرت ان القدس الشرقية خط احمر لا يمكن التنازل عن اي جزء منها، وانه لا يمكن تأجيل اية قضية من قضايا الحل النهائي لان جميع القضايا متصلة، ويجب ان يستند اي حل الى مرجعيات عملية السلام التي انطلقت في انابوليس، وهي رؤية بوش لحل الدولتين وخطة خارطة الطريق ومبادرة السلام العربية، وهو ما لا يمكن للاسرائيليين ان يقبلوا به.
وبالتالي فان الانطباعات التي خرج بها الطرفان عن صعوبة التوصل الى تسوية كما يريد بوش بعد مؤتمر انابوليس تبقى هي السائدة، وخصوصا ان الامور تذهب في الاتجاهات المعاكسة، في ظل معطيات متوافرة عن نية الحكومة الاسرائيلية الطلب الى جيشها القيام بعدوان واسع على قطاع غزة بعد انتهاء زيارة بوش، ما يعني ان أي كلام عن السلام والتسوية لا يمت الى الواقع بصلة، بحيث يبدو من الخفة البحث عن حل لقضية عمرها عشرات السنين لمجرد ان رئيسا اميركيا يريد ان يسجله كانجاز في تاريخه القصير.
عبد الحسين شبيب
الانتقاد/ العدد1266 ـ 9 ايار/ مايو 2008