ارشيف من : 2005-2008
جدات يتذكرن تفاصيل النكبة في ذكراها الستينية ويتشبثن بحق العودة
فلسطين ـ خضرة حمدان
ستون عاماً، هكذا مضت جراح وآلام وشهداء، قتل ودمار، لاحقهم حتى في أماكن تهجيرهم القصري، ملايين اللاجئين الفلسطينيين في داخل الأرض الفلسطينية بجوار قراهم المدمرة وفي الشتات على بعد أميال من الحب والذكرى يتشبثون بحق العودة لأرض نمت في قلوبهم وامتدت تتعلق بأحفادهم ولم تبق فقط ذكرى، بل هي واقع يحلمون به كل يوم، حمامة واللد والرملة وعكا وحيفا ويافا والجليل الأعلى وقرى تتجاوز الأربعمئة لا يفرط بها الفلسطينيون مهما تباعدت الأزمنة، فحقهم بالعودة لا يسقط بالتقادم..
في عامها الستين يتذكر كبار السن تفاصيل الرحيل القسري التي مروا بها مع عائلاتهم المهجرة مشيا على الأقدام، وبرغم العقود الستة فهم لا ينسون ان يجددوا تمسكهم بمفتاح العودة، ويأتمنون عليه أحفادهم ومن تبعهم إلى أن يعود صاحب الأرض إلى أرضه ويعمّر بيته..
تقول: "أقف على أعلى منطقة بالقرب من بيتي الجديد في بيت حانون وأرى أطراف بلدتي "دمرة" التي هجرنا منها الاحتلال، أرى كروم العنب وأشجار الزيتون التي هجرناها، واملك بين يدي مفتاح بيتي القديم".
تتابع :" من قال إنني افكر بالتعويض عن بلدتي ومنزلي هناك، هذا غير مقبول أبداً، فلن أفرط ولو بمتر واحد من الأرض التي هجرنا منها الصهاينة، فعائلتي تمتلك عشرات الدونمات الزراعية في "دمرة" ولا نفكر ببيع متر منها ولو عرضوا علينا مليون دولار".
الحاجة عائشة محمد حسين الزويدي تكاد تبلغ من العمر ثمانين عاماً، الوجه خط عليه الزمان بتفاصيله المرهقة، بمسافات طويلة قطعتها الشابة آنذاك لتهرب من أهوال جرائم ارتكبها المحتل الجديد في البلدات القريبة من بلدتها، وكما تقول في هروب مؤقت لخمسة عشر يوماً، تراه اليوم يمتد إلى ستين عاماً ولا مناص من العودة ولا تفكير يخالج قلبها بالتعويض او بالاستقرار حيث أنشأ لها زوجها من بلدة بيت حانون بيتاً صغيراً.
فبلدة دمرة التي هجر منها آلاف المواطنين في العام 1948 تطل بأطرافها على بلدة بيت حانون شمال قطاع غزة، وتكاد البلدتان تعتبران بلدة واحدة لولا المحتل الذي فصلهما بخط حزيران 1967 تقول: "ليس هذا بيتي، فبيتي هناك حيث طردنا من احتل بيوتنا وأراضينا وكروم العنب، إن مت انا سيحمل أحفاد أحفادي هذا المفتاح، ولن يموت حق العودة أبدا، فالكبار منا يورثون الصغار بيتا وأرضا ومفتاحا ووثيقة تثبت أحقيتنا ببلداتنا المدمرة".
الكيان العبري الغاصب الذي احتل الأرض الفلسطينية في العام 1948 بهمجية وبمساعدة واضحة من الانجليز "دولة بريطانيا العظمى" أحل بالأرض فساداً وقتل آلاف الفلسطينيين، ودمر قرابة 468 قرية فلسطينية، بل استمرت سياسة التدمير والتهجير بعد احتلال بقية الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل عام 1967، حيث دمر الاحتلال الإسرائيلي (11) قرية وموقعا في الضفة الغربية، محاولاً الاستمرار في هذا النهج التدميري والتهجيري لولا صمود الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه وتصديه للاحتلال دفاعاً عن الأرض والوطن.
من قرية أخرى دمرها المحتل الصهيوني تروي الحاجة زهدية حسن عبد الرازق توالي فصول النكبة التي مرت بها قريتها الخصاص، وتصر على أنها كبرت وأنها الوحيدة الباقية من عائلتها المهجرة من قرية الخصاص قضاء المجدل في عام 48، وتصر أيضاً أن تطلق على اسمها اسم عائلتها قبل الزواج برغم اعتزازها بزوجها وهويته الخاصة وعائلته.
الحاجة "زرقاء العينين" عثرنا عليها في مخيم جباليا للاجئين، وهو المخيم الذي أقيم عام 1954 عقب توافد الفلسطينيين المهجرين من قراهم وأراضيهم من شمال فلسطين ووسطها إلى قطاع غزة لا سيما بلدة جباليا المقامة في شمال مدينة غزة، حيث قطع الفلسطينيون الشريط الساحلي بعضهم في حوالى ساعة ونصف وآخرين لأيام ممتطين حيواناتهم الصغيرة والبغال والحمير، وقد دفنوا على بعد أمتار قليلة من الأرض متاعهم ونقودهم وحليهم آملين بالعودة بعد أيام قليلة لبيوتهم وأراضيهم الرحبة الواسعة والفواكه الطازجة التي ذبلت على الأشجار وتساقطت تحت دبابات الاحتلال القادم.
الحاجة التي تبلغ من العمر قرابة 74 عاماً، أي ما يزيد عن عمر النكبة بستة عشر عاماً فقط تؤكد أنها تحفظ عن ظهر قلب ملامح بلدتها والقرى المحيطة بها، وحدود منازل اهالي بلدة الخصاص وسوق المجدل الذي يتجه له القرويون كل يوم لبيع محاصيلهم الزراعية وبضائعهم والسلع الصغيرة، فيما يتجه له البدو فقط في يوم الجمعة، السوق الذي شهد في أحد الأيام سقوط الشهداء والجرحى, وكانت هي من بينهم جريحة حيث أصابتها شظايا العيارات النارية التي أطلقتها ثلاث طائرات للاحتلال باتجاه الباعة والبضائع، فيما اختبأت هي بالقرب من أحد المصارف الصحية لحين ابتعاد الطائرات الثلاث من المكان وقد تلون جسدها الغض الصغير حيث كانت في السادسة عشرة فقط بالسواد، وتفتحت فيه الثغرات نتيجة شظايا العيارات، حتى أن أحد أقاربها الفار من المكان ظن أنها قد استشهدت وأرسل خبراً لذويها ينبئهم باستشهادها, فالتقت في منتصف الطريق مع قريبة لها وبقيت الاثنتان تضحكان من سوء ما مرت به زهدية.
قرية الخصاص المسالمة رحبة الأراضي سكنها قرابة 200 فلسطيني من عائلات محسن التي تشمل والي، المزعنن وأبو عودة، وعائلات طبيل وعطوة وشتات، وكان أول شهدائها الحاج محمد بلحة حيث راح في لغم أرضي زرعه الصهاينة المحتلون بالقرب من متاعه، والشهيد الثاني حسن محمود ابراهيم محسن استشهد أيضاً نتيجة لغم أرضي آخر، وتناثرت أشلاء الشهيدين في الأرض الرحبة وعلى الأشجار وبالقرب من أمتعتهم، فيما همت النسوة الهاربات إلى لملمة الأشلاء ودفنها تحت التراب وتغطيتها بلوح حديدي كي لا يمسها التراب هناك في الخصاص.
أما بلدة اسدود على شاطئ البحر فتروي تفاصيل نكبتها الحاجة صبحية التي استذكرت أيام الفرح بمزيج من الحزن والألم، تتذكر تلك الأيام الجميلة التي كانت تقضيها بصحبة العائلة على شاطئ البحر، مضيفة أنها كانت تذهب هي وعائلتها إلى البحر مشيا على الأقدام لتتنسم هواء قريتها الذي وصفته بأنه يشفي القلوب مستطردة بالقول "نحن فلاحون لنا أملاك وأراض كثيرة وواسعة تركناها وراءنا وتركنا بيوتنا وشجرنا ورحلنا بالقهر".
وتتحدث صبحية عن حياة الفلاحين في قرية اسدود قائلة ان الأراضي كان أهلها يزرعونها بالقمح والشعير والتين والمشمش وأشجار الجميز الكبيرة والبرتقال وكل ما تشتهي الأنفس على حد تعبيرها، مبينة أن كل منزل في مدينة اسدود له قطعة ارض يزرعها صاحبها ويفلحها ليأكل من خيرها هو وأولاده، ويملك الأبقار والجمال يشربون من لبنها ويصنعون منه جبنا، ويأكلون من لحومها.
وتقول الحاجة صبحية "يزيد عمري عن الهجرة بأربعة عشر عاما أتذكر مدينتي بيت, بيت"، مبينة أنه كان يوجد في اسدود العديد من المدارس للبنات والأولاد وعدة جوامع وأنها كانت أكثر تطورا من القرى المجاورة لها، كما أن الأطفال ذهبوا للدراسة في المدارس وليس كباقي القرى التي يذهب فيها الأولاد للدراسة فيما أسمته الكتّاب.
وتضيف صبحية أنه كان في اسدود قهوة مشهورة تعرف بقهوة غبن، وكان كل شباب اسدود يقصدونها بعد العمل في الأرض للتسامر وتناول الشاي ولعب الطاولة والزهر حيث كانوا يتسامرون ويرددون القصص والأخبار التي تدور في القرى المجاورة مثل المجدل وحمامة وبيت دراس وأخبار الإنجليز وكيف كانوا يقاومونهم بأسلحتهم القليلة".
وتتذكر صبحية حتى السوق الكبير الذي اشتهرت به قرية اسدود آنذاك وكان يقصده سكان القرية لبيع الخضروات والفواكه ومنتجات الألبان كما يقصده فلاحو القرى المجاورة لبيع سلعهم فيه، كما كان فيها (موالي) مثل سيدنا سليمان وسيدنا البتنولي".
وتصف صبحية الحياة في قرية اسدود قبل عام النكبة بالهادئة والجميلة إلا أن الجيش الإسرائيلي دمر وقتل كل شيء جميل في هذا الوقت لتعلن إسرائيل الحرب على كل العرب، وبدأت الجيوش العربية بالتجهيز للحرب كما قالت".
واستطردت صبحية بالقول ان الجيش المصري كان موجودا في القرية في ذلك الوقت لمساندة الفلسطينيين، وأنها كانت تسمع دائما طلقات الرصاص ما جعل مساء اسدود غير هادئ ككل ليلة، فكل يوم هناك إصابات واشتباكات ولم يعد شباب القرية يجتمعون على قهوة غبن للتسامر، بل بدأوا الاجتماع بشكل سري وكوّنوا خلايا ومجموعات بالتعاون مع الجيش المصري من أجل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
ونقلت صبيحة عن جدها قوله "ما راح نرحل الا بعد ما يسقط المدفع المصري الموجود في اسدود"، مبينة أن سكان اسدود كانوا يستمدون قوتهم وصبرهم من وجوده قائما متصديا للاحتلال.
وتستطرد صبحية بالقول انه أستشهد اثنان من عائلتها هما: محمد وعبد الحميد أبو محيسن, اللذان تحديا منع التجوال والاحتلال وخاضا المعارك مع كل أهل اسدود في الوقت الذي كان الإسرائيليون يقصفون القرى بقذائف الدبابات ويرتكبون المذابح كالتي حدثت في دير ياسين من قتل للأطفال والرجال والنساء وضرب وسرقة، وسمعنا عن انتهاك للأعراض.
وبعد القصف الإسرائيلي لقرية اسدود سقط المدفع المصري كما سقط جدي معه على حد تعبيرها، وبدأ الجيش الإسرائيلي بالزحف للقرية ودب الرعب في القلوب، وبدأ مواطنو اسدود يضعون أغراضهم البسيطة من فرش وذهب على الجمال والبغال للهرب من ضرب الطائرات تاركين بقية الشباب فيها للمقاومة، وسقط من سقط وجرح من جرح، كما أن البيوت المصنوعة من الطين انهالت ولم يبق سوى البيوت التي كانت مصنوعة من الحجر.
وهرب مواطنو اسدود للبيارات والأحراج تاركينها على أمل العودة إليها يوما، وأنه بعد انتهاء الحرب التي كان البعض يتوقع ان تنتهي بسرعة، ولكن الحرب اشتدت وأمل العودة أصبح ضئيلا.
وتستطرد صبحية بالقول "كنا نمشي ليلا ونمر على كل القرى المجاورة بيت طيما, المجدل, الخصاص وهربيا وصولا الى بيت لاهيا، وهناك سلمتنا وكالة الغوث خيما عشنا فيها عدة اشهر، ثم بنوا لنا بيوتا من اسبست، اما نحن فذهبنا وعشنا في جنوب غزة على أمل الرجوع يوما، فوالدي ما زال يحتفظ بأوراق ملكية الطابو ومفتاح المنزل الذي ورثناه عنه وسنورثه لأحفادنا إلى أن تعود الأرض لأصحابها من الاحتلال".
واختتمت صبحية حديثها عن قريتها بعبارة فيها مرارة الحنين "يا ريت ما تركنا بيوتنا وأرضنا ومتنا فيها".
الانتقاد/ العدد1267 ـ 16 ايار/مايو2008