فلسطين ـ خضرة حمدان
دقيقتان فقط لم يمنحهما الموت أكثر ليصطادهم واحداً تلو الآخر، موت أرسله الحقد الصهيوني بثلاث قذائف مدفعية، الثالثة اختارت مائدة الإفطار والجميع كانوا على موعد مع مشهد النهاية الدامي.
في صبيحة الاثنين الماضي (28-4-2008) اختارت الأم ساحة المنزل لإطعام أطفالها الأربعة، ولأن مسعد أبو معتق أصغرهم سناً "ثمانية أشهر" فقد تربع على عرش حضن أمه ميسر، والتف الصغار هناء (ثلاث سنوات)، صالح (اربع سنوات) وردينة (ست سنوات) كحلقة صغيرة يتناولون ما تيسر من الخبز والحليب والبيض، ساعة تجمعهم ودقيقة فرقتهم، قذيفة حمراء مشتعلة من مدفعية صهيونية فاشية كانت تفتش عن فريسة فاختارت أسرة ما لها من الدنيا سوى القليل، بيت متهالك قريب من لا بيت، وحصيرة جمعت الحب ولكن الموت نثره بالرياح كما نثر أجسادهم وفرقها بين أركان المنزل المتهالك.
ضحايا خمس ام واطفالها الأربعة، جريمة صباحية استيقظ على وقعها القاصي والداني في الأراضي الفلسطينية، لم تسعفهم الكلمات ولا الإدانات، فاليوم هو تواصل لما برع به المحتل كل يوم، توغل وقصف عشوائي وقتل بالجملة يصطاد الأطفال وأمهاتهم وتلاميذ المدارس.
رب الأسرة الوالد المفجوع بالجريمة أحمد أبو معتق رجل اشتعل رأسه شيباً، في عام مضى فقد شهيداً واليوم يفقد عائلته بالجملة ولم يتبق له سوى من نجا من موت محتم طفلتاه "أسماء وشيماء" كانتا تلهوان بالشارع في طريقهما للمدرسة، قال: "ما ذنب أطفالي الأربعة وزوجتي، ما الذي فعلوه لماذا يقتلهم الحقد الإسرائيلي ألا يخافون الله، اللهم انتقم من قتلة أبنائي".
في لحظات صدمة الموت كان يقول: "ستة من اولادي وامهم (..) حسبي الله ونعم الوكيل هذا يوم أسود (..) قتلهم من لا يخاف الله سحقوا عائلتي بأكملها فأصبح بيتي خالياً، لعلّ الله يريني فيهم يوماً أسود كما رأيت". لم يكن يعلم ان طفلتيه اسماء وشيماء من الناجين...
لحظات الموت الصاخبة
عندما باغت الموت جماعتهم لعلّ مسعد الصغير حاول دفع ما لا يعلم عن أمه وأخواته وشقيقه الأكبر، لعلّه صرخ ولم يسمعه أحد، الموت التقفهم دون ان تلطخ أيديهم بالدماء أو تمسك الحجارة، أطفال وأمهم ماذا سيفعلون امام بطش قذيفة تتطاير شظاياها لتختار قلوبهم وصدورهم وأعينهم، ويا الله لقد اختارت القذيفة شفتي الطفل الصغير لتنزف الدماء وتختلط على كسيرات الخبز.
لم يجدوا مغيثاً سوى نيران القذيفة الإسرائيلية على مائدة الإفطار، قتلتهم فبأي ذنب، أحالتهم طعاماً لشبح الموت، كانوا سيأكلون آخر لقيمات من الحياة، وتودع أكبرهم أصغرهم بقبلة وتغادر إلى المدرسة فكان.. الموت.
في ساعات الصباح الباكر من يوم الاثنين الماضي سمع الغزيون كما كل يوم عن توغل اسرائيلي عسكري مدجج بالآليات العسكرية الحديثة في أراضي المواطنين شمال شرقي بيت حانون، وهناك استقر يومها ليرسل رسائل الموت فاختار تلميذ مدرسة هو ايوب عطاالله كان يسير في طريقه للمدرسة، واصاب صديقه معتصم بجراح كما لم يغادر المنطقة سوى في ساعات الليل لينهي ما يسميه هو "عملية عسكرية" وما يسميه الغزيون "جريمة ومجزرة جديدة".
الحقد الصهيوني يختار ساعات الصباح الباكر عندما يدرك جيداً ان الأسر الغزية تنعم بآخر لحظات النوم لتستقبل أيام شقاء ودماء، المشهد يقترب من "جريمة" نالت من عائلة العثامنة في بلدة بيت حانون، المكان قريب من ذات المكان، عزبة بيت حانون أرض زراعية بشوارع ترابية متواضعة وبيت صغير متهالك ضم الأطفال الستة ووالدتهم وعلى الطعام حيث كانت لحظات الوداع.
أما الوداع فكان ألف آه...
في حياتهم اختاروا الأسماء فكانت الهناء إلى عيش صالح ومسعد وردينة، فهي تلهو خلف الصغار وتجذبهم وأمهم تلتف حولهم كما الفراشة تلبي احتياجاتهم وتحتضن أصغرهم ولحظة الموت تداعى الصغار لأصغرهم فكان الموت أسرعهم.
على الأرجح كانوا يحاولون الهرب من ذاك الموت فسبقهم، الجريمة ذاتها ارتكبها العدو الصهيوني في كل أركان قطاع غزة قتل عائلات بأكملها دفنها تحت الركام والأنقاض والعالم ينتظر تهدئة فلسطينية تهدئ من روع المحتل وأطفاله وتدعهم يعيشون بسلام، يلهون بالحدائق الخضراء وينامون بأمان على أسرة العيش الرغيد ويتنشقون نسائم الحرية، فيما يموت الفلسطيني بغيظه لا أرض خضراء يدعها التجريف الحاقد ولا أغنية حب يترنم بها السعداء ولا ترنيمة نشيد وطني لوطن ذي سيادة وعاصمة وعلم... يريدون لفلسطين الموت ولهم الحياة.
ثلاث أسرة بيضاء حملت الأم وطفلها الصغير وآخر للشقيقتين وثالث للطفل صالح كانوا في وداع غزي سبقته الدموع ولحقته المطالبات بالانتقام ومناشدات للعالم أجمع تتساءل عن ضمير حي.
الجريمة جاءت غداة جريمة أخرى نالت من الطفلة مريم معروف (عشر سنوات) على مسافة قريبة غير بعيدة في بلدة بيت لاهيا الهادئة اختار العدو منزل المواطن طلعت أبو معروف وتسلل اليه ليلاً وحاصره بتغطية مروحية كثيفة ودون سابق إنذار أطلق قذائف الموت لتنال من شرفة المنزل ومن سلمه الداخلي ومن طفلتهم مريم والأم التي جلست مصابة على سرير الشفاء تتذكر لحظات الموت في كل غمضة عين...
الانتقاد/ العدد1265ـ 2 ايار/مايو2008