ارشيف من : 2005-2008

«السفير» في مقر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي

«السفير» في مقر المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في لاهاي

وترميم المبنى الذي قدّمته الحكومة الهولندية في بلدة ليدسكندام في الضاحية الشمالية لمدينة لاهاي، وهو أمر يستغرق عاماً كاملاً لانتهاء ورشة التصليحات والتي لم تبدأ بعد، ويؤمل أن تبدأ عمّا قريب، بحسب تأكيد مصدر رفيع المستوى في وزارة الخارجية الهولندية التقته «السفير» في لاهاي.‏

فقد طلبت الأمم المتحدة من الحكومة الهولندية أن تسمح باستضافة مقرّ هذه المحكمة، انطلاقاً من شهرة لاهاي الواسعة واعتبارها مدينة مضيافة للقانون وعاصمة القانون في العالم منذ أكثر من قرن، كونها تضمّ في ثناياها مؤسّسات قانونية وقضائية ومنظّمات دولية عديدة منها محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، والمحكمة الدائمة للتحكيم، والمحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا سابقاً، والمحكمة الخاصة بسيراليون (فقط محاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلز تيلور)، والمحكمة الخاصة بالنزاعات الإيرانية الأميركية، ومؤسسة حظر الأسلحة الكيمائية، ووكالة الأبحاث الفضائية، والأمانة العامة لمعهد لاهاي للقانون الدولي الذي انطلق في العام ,1879 وليس غريباً أن تحتضن على أرضها، محكمة إضافية، من دون أن تكون لها أيّة علاقة بها، فالمرجعية المسؤولة والسلطة محصورة بالأمم المتحدة فقط.‏

وبعد مفاوضات طويلة، ومناقشات مستفيضة، وافقت هولندا على الطلب الأممي، وجرت دراسة مكانين ليكون أحدهما مقرّاً للمحكمة، ولكن تبيّن بأنّهما ليسا مناسبين، على ما يوضّح المصدر الهولندي نفسه، والسبب أنّه لم يكن أحد يعرف حجم هذه المحكمة وعدد الدعاوى التي ستنظر فيها، فنشأت سلسلة افتراضات خضعت للدراسة والبحث مع الأمم المتحدة، قبل أن يستقرّ الرأي على مبنى هيئة الاستخبارات المركزية التي أخلته وانتقلت منه في العام ,2007 إلى مكان آخر، ولم يعد لها أيّ موطئ قدم بداخله، وكلّفت شركة أمن خاصة بحمايته بانتظار تسليمه نهائياً للأمم المتحدة، لكي تديره بنفسها، على غرار ما هو جار في بقيّة المحاكم الدولية الموجودة في لاهاي وسواها.‏

وارتأت السلطات الهولندية أن تكون مساهمتها في قيام هذه المحكمة مقتصرة على تقديم هذا المبنى مجّاناً لمدّة لا تتجاوز السنوات الستّ، على أن تسدّد هي للبلدية الصغيرة التي يقع المبنى فيها، قيمة إيجاره السنوي والبالغة 3.4 مليون يورو، على حدّ تعبير هذا المصدر الذي يقول إنّ التفويض المقدّم من الأمم المتحدة لهذه المحكمة هو ثلاث سنوات، ولكنّ بلدية ليدسكندام ـ فوربورغ تنبّهت لهذا الأمر ومنحت ثلاث سنوات إضافية للمحكمة لكي تنهي كلّ شيء، ولم يعرف ما إذا كان ذلك يعني بأنّه في حال لم تتوصّل المحكمة بهيئتيها الابتدائية والاستئنافية إلى إصدار الحكم المناسب، فإنّها قد تضطر إلى طلب تمديد مهمتها، أو الانتقال إلى مكان آخر، ومهما يكن فإنّ هذه الصورة هي رهن المحاكمات ومن المبكر الحديث عنها.‏

أمن المحكمة‏

كما عرضت الحكومة الهولندية مساهمات أخرى، كأن تتولّى كلّ المسائل المتعلّقة بالأمن الخارجي للمبنى مثل نقل المشتبه فيهم، والشهود، وحماية القضاة والموظّفين والعاملين في هذه المحكمة، بينما تكون مسؤولية الأمن داخل مبنى المحكمة وقاعتها ومكاتبها على عاتق رجال الشرطة التابعين لجهاز الحماية في الأمم المتحدة كما هو معمول به في المحاكم الدولية الأخرى.‏

ويؤكّد المصدر الهولندي على أنّ بلاده تؤيّد قيام هذه المحكمة، موضّحاً «أنّنا لم نتطوّع لاستضافتها، بل طلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون منا أن نستضيفها، وجاء ردّنا إيجابياً، وبالطبع هناك مشاغل أمنية، ونحن لا ننكر أنّ تأسيس مثل هذه المحكمة في لاهاي قد يحمل بعض المشاكل الأمنية، ولا بدّ من أن نعالجها، ونحن فكّرنا في هذا الأمر قبل إعطاء الكلمة النهائية لاستضافة المحكمة».‏

وفهم أنّ المسؤولين في أجهزة الأمن الهولندية طلبوا من حكومة بلادهم أنّه في حال كانت هناك نيّة لتولّي المسائل الأمنية فليكن بمفردهم، ولذلك قرّرت هولندا أن تتحمّل كامل النفقات بمفردها، وهي تكاليف غير محدّدة ومفتوحة ومرتبطة بمدّة المحكمة وعدد القضايا التي ستنظر فيها وعدد الشهود المنوي حمايتهم.‏

واتضح بأنّ مبنى الاستخبارات الهولندية بحاجة ماسة إلى الترميم والتأهيل، وهذا ما يلمسه عن كثب، كلّ من يتسنّى له الدخول إلى طوابقه وردهاته، فلا أثر لقاعة محكمة، بل هنالك ملعب رياضي داخلي في قاعة مقفلة في الطابق الأوّل منه، وهو ما تدلّ عليه علامات تخطيط أرضية هذه القاعة كما يحصل عادة في ملاعب كرة السلّة، والكرة الطائرة، كما أنّ المبنى يضمّ زنازين كانت تستعمل لاستضافة موقوفين والاحتفاظ بمتهمّين، وهذا سوف يستغرق عاماً كاملاً منذ بدء الترميم، وتأمل الحكومة الهولندية بأن تبدأ أعمال التأهيل، عمّا قريب، لتكون منجزة وجاهزة وبتصرّف هيئتها القضائية.‏

وطبعاً لن يؤثّر هذا التأخير في مجريات عمل المحكمة لجهة الترتيبات المطلوبة إدارياً ولوجستياً وقلمياً، حيث من المنتظر أن يصل مسجّل المحكمة القاضي البريطاني روبن فنسنت، إلى لاهاي في شهر حزيران من العام ,2008 قادماً من مدينة نيويورك ومعه عدد من الموظّفين الأساسيين، ولكنّ البدء الفعلي لعمل المحكمة من حيث إجراءات المحاكمة العلنية والشفّافة لن يتحقّق قبل عام واحد على الأقلّ، وهو رهن بسرعة البتّ بأشغال البناء الضرورية والمطلوبة في قاعة المحكمة قبل أيّ شيء آخر، إن لم يستدع الأمر بناء قاعتين للمحكمة بحسب ما ينصّ النظام الأساسي للمحكمة في القرار الدولي الرقم .1757‏

ويقول المصدر الهولندي إنّه بإمكان الموظّفين المباشرة بأعمالهم في المبنى خلال عمليات الترميم، ولكن ما قد يعيقهم ويستغرق مدّة زمنية طويلة هو بناء قاعة المحكمة التي قد تكون جاهزة في شهر أيّار من العام ,2009 وبالتالي فإنّ لا أحد يتوقّع أن تبدأ المحاكمات قبل هذا التاريخ.‏

ويعرب المصدر الهولندي عن اعتقاده بأنّ «أوّل جلسة محاكمة لن تبدأ قبل عام»، وهذا طبعاً في حال وجد متهمّون، وإلاّ فمن ستحاكم هذه المحكمة إنْ لم يتضمّن القرار الاتهامي أسماء متهمّين حقيقيين، مقرونة بالأدلّة والبراهين والقرائن الدامغة، على ما ينصّ القانون.‏

وإن كانت اتفاقية المقرّ التي تمّ التفاوض بشأنها مع الأمم المتحدة قد دخلت حيّز التنفيذ، بعدما وافقت الحكومة الهولندية عليها يوم الجمعة الواقع فيه 21 كانون الأوّل من العام ,2007 إلاّ أنّ البرلمان الهولندي لم يقرّها بعد، وهذا إجراء روتيني وضروري ولا غنى عنه، وسوف يحصل في نهاية المطاف.‏

ويشير اتفاق المقرّ إلى مسألة مهمّة تتعلّق بنقل المتهمّين المدانين إلى دولة ثالثة بعد المحاكمة، وهو أمر يقلق السلطات الهولندية في الوقت الراهن، ومن المنتظر أن يلحظ ذلك مسجّل المحكمة القاضي فنسنت الذي سوف تناط به مسؤولية تحديد وإيجاد هذه الدولة لإرسال المدانين إليها مع الحماية اللازمة.‏

أما بشأن ميزانية المحكمة، فهي ستون مليون دولار أميركي، ولكنّه «مبلغ غير كاف في ظلّ ارتفاع سعر اليورو» على ما يقول المصدر الهولندي، ولكنّ التوقّعات أنّه في السنتين الأولى والثانية من عمر المحكمة، فإنّ تغطية النفقات كاملة.‏

المحكمة وجيرانها‏

تقع المحكمة ذات الطابع الدولي في شارع «DR.VANDER STAMSTRAAT»، في بلدة «LEIDSCHENDAM»، ويمكن الوصول إليها من لاهاي بالسيّارة حيث لا يستغرق المسير إليها أكثر من ربع ساعة، أو عبر القطار من المحطّات المتوافرة لمن يفضّل التنزّه بين ربوع الطبيعة الخلاّبة والتي تحيط بالمبنى من جميع الجهات، ولا يقطع هدوء المشهد الجميل، سوى انسياب المياه في قناة لا بأس بحجمها، تمرّ في الباحة الداخلية للمحكمة وتعبر منها إلى محاذاة الشارع العام للتواصل مع قنوات أخرى تمرّ قرب بعض المنازل المشيّدة بطريقة تفرح العين، فلا تلتهم الهواء ولا تطال السماء.‏

يتألّف مبنى المحكمة من ثمانية طوابق تقابله سبع بنايات مأهولة بالسكّان، وتفصل بينهما حديقة أو فسحة مزروعة بالعشب والشجر، ثمّ طريق فرعي.‏

وأوكلت الاستخبارات الهولندية مسؤولية حماية المبنى إلى شركة خاصة يتناوب منها شخصان يومياً وبمعدّل إثنتي عشرة ساعة، على الحراسة، ويمنعان أيّ شخص من الاقتراب منه أو الدخول إليه من دون الحصول على موعد مسبق.‏

ويدلّ المدخل الخارجي الرئيسي للمبنى على أنّه كان محصّناً بالحماية، ومخصّصاً لاستقبال رجال الاستخبارات وما لديهم من ملفّات إرهابية، فالولوج منه إلى الباحة الداخلية ليس سهلاً، ولا بدّ من الخضوع لعملية تفتيش مضنية وتدقيق في هوّيات الموظّفين والزوّار، وهو مدخل حديدي مقفل لا تخترقه سوى نافذة زجاجية صغيرة تستشكف الطريق الأمامي.‏

وتحيط بهذا المدخل ثلاث بوّابات حديدية صغيرة الحجم، يمكن مشاهدة ما خلفهما، لأنّ تقاطيع الحديد الصلب المكوّن منها لا تحجب الرؤية.‏

وبعد تخطّي الباحة، هنالك مدخل آخر يؤدّي إلى بهو داخلي متوسّط المساحة ترتفع فيه بوّابة إلكترونية لا يستطيع المرء تجاوزها ما لم يبرز بطاقة معطاة له من الاستخبارات تخوّله حقّ المرور بعدما تقرأ البيانات المكتوبة فيها وتتطابق مع الجهاز الإلكتروني، بحسب ما يتضحّ من الماكينة الإلكترونية الملصقة بالباب، ثمّ يستطيع الوصول إلى الجزء المتبقّي من البهو والذي تتفرّع منه ممرّات إلى الطوابق العليا، وغرف جانبية بينها غرفة خاصة بالرقابة تشتمل على تلفزيونات وشاشات متصلة بعدد كبير من كاميرات المراقبة التي زرعت وركّبت في مختلف الجوانب والزوايا الخارجية والداخلية، بحيث يمكن للجالس فيها مشاهدة كلّ ما يدور حوله من دون عناء بحث، عمّا يثير الريبة.‏

وتظهر بوّابة أخرى في الخارج تفضي إلى باحة كانت تستخدم على ما يبدو، مواقف لركن السيّارات فيها، ويحتاج اجتيازها إلى تمرير البطاقة أمامها.‏

ولم يسمح لنا بالصعود إلى الطوابق العليا بسبب ضيق الوقت، ولكن يظهر من الخارج أنّها تضمّ عشرات المكاتب، فالواجهة الأمامية الخارجية للمبنى مقسّمة بين الباطون والزجاج، وهنالك ما لا يقلّ عن إثنتي عشرة نافذة في الطابق الواحد، كما أنّ المبنى برمّته يختلف جذرياً عن مباني المحاكم الدولية الموجودة في لاهاي، فمبنى المحكمة الدولية الخاصة بيوغوسلافيا سابقاً مثلاً، أقلّ ارتفاعاً ومساحة، ولكنّه أكثر جمالاً وقدماً.‏

عاصمة وليس سجناً‏

وكانت السلطات الهولندية واضحة مع الأهالي القاطنين في المباني المواجهة للمبنى، بحيث أخطرتهم بموجب كتاب رسمي وجّهته إليهم، بأنّ الاستخبارات الهولندية انتقلت إلى مكان آخر، وتحديداً إلى مبنى تابع لوزارة التربية في منطقة زوترمير«ZOETERMER» القريبة، وبأنّ المبنى أصبح للمحكمة الخاصة بلبنان، وبأنّ أشغالاً سوف تحصل وقد يتذمّرون منها.‏

نرى أحد السكّان جالساً على شرفة منزله مستمتعاً بالهدوء الذي يلفّ المكان، فنخاطبه ونطلب منه النزول إلينا للحديث معه، فيلبّي مسرعاً، ونسأله عن رأيه بهذا الجار وهو لم يسبق له أن سمع بلبنان، فيقول: «نحن لسنا قلقين، باعتبار أنّنا معتادون على الإجراءات الأمنية، وبالتالي فبمقدورنا أن نترك سيّاراتنا مفتوحة وننام مطمئنين».‏

ومع انطلاق عمل المحكمة، لا بدّ أن تستقبل بلدة ليدسكندام مئات الزوّار والضيوف من صحفيين ومحامين ومواطنين شغوفين بحضور جلسات المحاكمة المشوّقة، ولكن ثمّة عائقا أمام هؤلاء يتمثّل في قلّة الفنادق التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ممّا يحتمّ عليهم استئجار منازل وشققاً قريبة في البلدة، أو الانتقال للعيش في لاهاي، والمسافة الفاصلة بينهما ليست بعيدة، بل ممتعة ودافئة في فصلي الربيع والصيف، وفي جميع الأحوال، فإنّ هولندا مستفيدة من هذه المحكمة مادياً، وممّا قد يصرفه فيها المسافرون إليها لحضور محكمة أنشئت على مقاس رجل، وليس من أجل جرائم ضدّ الإنسانية أو جرائم إبادة على غرار المحاكم الدولية الأخرى.‏

يتباهى المصدر المسؤول في وزارة الخارجية الهولندية بأنّ لاهاي فخورة بأنّها العاصمة القانونية للعالم كلّه، وترتفع على وجهه ابتسامة عريضة، عندما يتابع وصفه بالقول: «ولكنّها غير سعيدة بأنّها سجن للعالم كلّه».‏

واللبنانيون بدورهم، يتطلعون إلى أن تتحقّق العدالة في لاهاي، ويستعاد حقّ رجل قضى بطريقة إرهابية، ولكنّ المهمّ في نهاية المطاف، هو أن يبقى لبنان الذي هو أكبر من الجميع.‏

المصدر: صحيفة السفير اللبنانية، 20/5/2008‏

2008-05-20