ارشيف من : 2005-2008

سليمان رئيساً بتسوية الدوحة: الدور الممكن والمطلوب

سليمان رئيساً بتسوية الدوحة: الدور الممكن والمطلوب

بإرساء حال من الهدنة هي أقرب إلى استراحة المحارب منها إلى أي شيء آخر، حيث تبقى هشة وعرضة للاهتزاز عند أول متغير مهم وأساسي يمكن أن يصيب المنطقة.‏

فالتسوية الجزئية التي صُنعت في الدوحة هي محصلة طبيعية لانكسار مشروع الهيمنة الأميركية في المنطقة، وفقدانه المبادرة والزخم اللذين كان يتمتع بهما اتبداءً، لا سيما القدرة على شن حروب حاسمة جديدة، ما دفعه إلى انتهاج استراتيجية جديدة تقوم على ادارة أزماته، وترحيل القرارات الكبرى إلى ما بعد الانتخابات الأميركية ومجيء ادارة جديدة. ولذا كان مطلوباً ملء الفراغ بسياسة تبريد نقاط التوتر والنزاعات الأساسية على مختلف الجبهات بواسطة تسويات جزئية في مكان، وفتح باب التسويات الممكنة في أمكنة أخرى. وتصبح الرغبة في التسوية أكبر كلما زادت الحاجة اليها، تماماً كما حدث في لبنان، عندما شعر الأميركي وأتباعه الإقليميون أن فريقه في لبنان بات محاصراً بين خيارين: إما السقوط الكامل وإما انقاذ ما يمكن انقاذه، فكان اختيار الخيار الثاني.‏

وبناءً عليه، جاء اتفاق الدوحة ليجسد تسوية جزئية وليعكس توازنات محددة، مع الاحتفاظ بخلل واضح في موازين القوة لمصلحة المعارضة.‏

هذا الإطار السياسي الوفاقي الذي في محصلته هو نقطة التقاء قوى وأطراف ودول متناقضة ومتصارعة، شكل البنية التحتية لإطلاق المسار السياسي الداخلي الخاص بإعادة بناء مكوّنات السلطة، بدءاً من انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، الذي كان أصلاً محل توافق بين القوى المتصارعة والمتناقضة داخلياً، وهكذا التقى التوافقان ليشكلا القاعدة التي يقف عليها رئيس الجمهورية، والتي لا بد ـ مبدئياً ـ من أن تحكم موقعه ودوره في المرحلة المقبلة. فالرئيس سليمان لا يمكن أن يكون رئيساً طرفاً لا بالمعنى السياسي للكلمة، ولا حتى بالمعنى الدستوري الذي يضع موقع الرئاسة الأولى في موقع الحكم أكثر منه في موقع الحاكم، خصوصاً بعد الطائف. فالرئيس الجديد سيشكل بأدائه ومواقفه نقطة التوازن الصعبة والدقيقة في إدارة البلاد، وفي إدارة العلاقة بين طرفي الموالاة والمعارضة. لذا ستكون ادارته هي المؤثر الأبرز في الوجهة التي يمكن أن تتخذها البلاد. ولا شك أن هناك مسؤولية كبيرة على عاتق الرئيس الجديد، وبين يديه مهمة صعبة، لأن أي خلل فيها قد يدفع الأمور مجدداً إلى المجهول. والرئيس الجديد هو أكثر من يدرك ذلك، انطلاقاً من تجربته في ادارة المؤسسة العسكرية التي احتاجت منه الكثير الكثير من الحكمة والصبر والتوازن الحساس للحفاظ على وحدة هذه المؤسسة وحمايتها من أي تصدع، خصوصاً أن هناك أطرافا في الموالاة كانت تدفع دفعاً لزج الجيش في صراعات ظرفية تفتح الطريق أمام فرط تماسكه.‏

إن الموقع الوسطي لرئيس الجمهورية هو أكثر من ضروري، على الأقل في المرحلة الأولى، حيث المطلوب تنظيم ملء الاشتباك السياسي الذي أتاحه اتفاق الدوحة، وتثبيت الهدنة على قواعد سياسية وإعلامية تصرف كل التوتر الداخلي بين الأطراف المتصارعة، أو تبردها إلى الحد الأدنى، وصولاً إلى إدارة الحوار حول المسائل الخلافية، وفتح الطريق أمام عملية تعاون راسخة.‏

ومن الواضح أن أمام الرئيس الجديد وقتا مستقطعا يمتد من الآن حتى ما بعد الانتخابات الاميركية، بل إلى الانتخابات النيابية المقبلة، ويشكل فرصة اختبار حقيقية للوجهة التي ستؤول اليها الأمور، وللتوازنات التي سوف تستقر عليها خريطة المشهد السياسي الداخلي بقواه المختلفة.‏

وإذا كان من المتوقع أن يعمل الرئيس الجديد على ترجمة موقعه إلى قوة تمثيل سياسية ونيابية وشعبية، خصوصاً في الساحة المسيحية، الأمر الذي سيؤدي إلى نشوء خريطة توازنات جديدة فيها، فإن شكل التحالفات ومضمونها وتوازناتها سيكون لها انعكاسها، ليس فقط على موقع الرئاسة ودورها، وإنما على مجمل المشهد السياسي الداخلي.‏

وسط هذا التحرك المتوقع في الساحة المسيحية، يمكن توقع حراك موازٍٍ ومقابل في الساحة الاسلامية عموماً، التي تبدو مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى ابتلاع صيغ علاقات توفيقية بين قواها، تشكل بدورها ضابط توازن أكثر ثقلاً ومركزية داخلياً. وفي هذا الإطار يمكن وضع دعوة الأمين العام لحزب الله النائب سعد الحريري إلى اعادة استرجاع تراث والده الراحل رفيق الحريري، الذي نجح في الموازنة بين معادلة الاعمار والمقاومة، وبتعاون وثيق بين قطبيها.‏

على كل الأحوال تبدو الساحة الداخلية مقبلة على شبكة من الحراك السياسي، المدفوعة بحسابات مختلفة. وكل ذلك في سياق تأكيد ان ما حدث حتى الآن هو مجرد تسوية جزئية لا تسمح بإطلاق حلول للقضايا والمسائل الخلافية الصعبة وذات الامتدادات والأبعاد الإقليمية المتنوعة، في ظل التوازنات القائمة حالياً داخلياً وإقليمياً. وبناءً عليه جرى ترحيل هذه الأزمات إلى أوقات أخرى، على الأقل إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، حيث في ضوء السلوك السياسي للإدارة الجديد سيتحدد ما إذا كانت المنطقة ستكون مقبلة على حروب جديدة أم على تسويات محددة. مغزى هذا الترحيل داخلياً أن المطلوب ترحيل هذه الملفات إلى ما بعد الانتخابات الأميركية والانتخابات النيابية في لبنان، حيث ان خريطة المشهدين هي التي ستقرر شكل التعاطي الجديد مع هذه الملفات.‏

هذا لا يعني أن البعض لن يحاول اللعب بهذه الأوراق في سياق التجاذبات الداخلية، إلا أن سقف اللعب بها سيبقى مضبوطاً بالحدود المسموح بها.‏

وما يجب الالتفات اليه هنا، هو أنه اذا كانت المسائل السياسية المعقدة دون مقاربتها معادلات وحسابات وتوازنات معقدة بدورها، فإن هذا لا يعني أبداً تأجيل البحث عن حلول للمشاكل والقضايا الداخلية التي تعني اللبنانيين جميعاً وتخصهم وحدهم، كالقضايا الاقتصادية والمالية والمعيشية وغيرها من الشوائب والخطايا التي نتجت عن تجربة حكومة السنيورة اللاشرعية، والتي أصابت ممارستها مجمل الصيغة والتركيبة اللبنانية بتشوهات خطيرة.‏

وإذا كان للتسوية الجزئية الأخيرة من فضيلة أساسية تحتسب لها، فهي فضيلة إعادة تأسيس الحكم على قاعدة الشراكة الفعلية، الأمر الذي يعني قطيعة مهمة مع مرحلة التفرد والاستئثار، والعمل على فرض معادلة غالب ومغلوب من خلال الاستعانة بقوى الوصايا الامبريالية الخارجية. هذا هو جوهر هذه التسوية بل روحها، وأي انقلاب عليها يعني اعادة عقارب الساعة إلى مرحلة النزاعات المدمرة. وهنا أيضاً تكمن مسؤولية الرئيس الجديد، أي مسؤولية الحفاظ على روح الشراكة الفعلية، انطلاقاً من موقعه كضابط للتوازن بالمعنى الايجابي للكلمة لا بالمعنى السلبي.‏

ويبقى أنه أمام الجميع فرصة أخذ الدروس والعبر من كل ما حدث، والتطلع إلى الأمام بروح من التعاون الوثيق لمصلحة لبنان، كل لبنان، ولمصلحة اللبنانيين، كل اللبنانيين.‏

الانتقاد/ العدد1269 ـ 30 ايار/ مايو2008‏

2008-05-29