ارشيف من : 2005-2008
بنت جبيل بعد ثماني سنوات على التحرير: دولة الانماء لم تشق طريقها الى المنطقة المحررة
عندما استفاق الجنوبي على تحرير 25 ايار 2000 استفاقت معه احلام لطالما دغدغت مخيلته ومشاعره، فظن ان موعد العودة الى حضن الدولة قد بات قريبا، وأن أوان التنمية قد حل. فتحضرت المنطقة يومها لتأخذ بعضا من نصيبها من الاهتمام الاقتصادي والإنمائي كمرحلة أولى للتعويض عن الحرمان الفائت الذي حرمها منه الاحتلال من باب، والأزمات السياسية وتضارب المصالح من أبواب كثيرة أخرى.
إلا أن ما حصل في هذه المنطقة الزراعية هو أن "حساب البيدر لم يأت مطابقا لحساب الحقل" فعاد الأهالي بوفاض خالية بحيث ان الإهمال السابق وخيبة الأمل اللاحقة جعلا هذه المنطقة من أكثر المناطق فقرا في لبنان بحسب دراسة أعدها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة.
وبنظرة على جميع القطاعات الاقتصادية في المنطقة يظهر أن أفضل تلك القطاعات هي بحال سيئة ولا يمكن تسميتها بالقطاع المنتج الذي يمكن أن يكون مصدرا للدخل، لذلك نجد أن معظم العائلات المقيمة في المنطقة تعتمد على أكثر من مهنة من اجل تأمين كفاف عيشها، فيما يشكل المال الاغترابي اكبر موارد الدخل لهم.
أما القطاعات الإنتاجية فهي تأتي بترتيب تفاضلي بالنسبة لمساهمتها في تأمين موارد دخل للسكان المقيمين وباستثناء المساعدات الاغترابية، فإن هذه القطاعات الإنتاجية تبقى على قدر الحال بالنسبة للعاملين فيها.
زراعة صيفية وهجرة بجميع الاتجاهات
شكلت زراعة الدخان على مدى السنوات الماضية الإنتاج الزراعي الرئيسي في المنطقة، واحتلت بالتالي القطب والمحرك الرئيسي للحركة المالية المتأتية من هذا القطاع، حيث تتراوح نسبة ما يضخ من أموال في بنت جبيل ما بين 16 و18 مليار ليرة سنويا، وهو مبلغ كبير نسبيا بالنسبة لمنطقة محدودة الدخل. إلا أن هذه الأموال كما بات معلوما لا تدخل في نطاق استثماري وإنما تتحول إلى الاستهلاك المباشر أو تسديدا لديون تكون قد تراكمت خلال أيام السنة.
يقول مصطفى سرور بمرارة ان "الوضع الزراعي قبل التحرير كان أفضل مما هو عليه الان، حيث كانت الأسواق مغلقة بوجه البضائع الخارجية، وبالتالي كانت أسواق التصريف متوافرة، كما أن اليد العاملة كانت مضطرة إلى العمل في هذا القطاع بينما سهولة الانتقال بين المناطق في الوقت الحاضر دفعتهم إلى البحث عن موارد عيش أكثر إنتاجية بعد أن تحولت الزراعة إلى مهنة متعبة لا طائل منها بغياب اي اهتمام رسمي".
وبالإضافة إلى زراعة الدخان تنتج المنطقة بعض المزروعات الموسمية وهي بمجملها صيفية تتنوع بين البندورة، القثاء، الخيار، الشمام، التين، العنب، الزيت والزيتون، وبعض المزروعات المتفرقة الجديدة كالفطر، وإنتاج العسل. وباستثناء الشمام بالكاد تشكل تلك المنتجات دخلاً يومياً يكفي لسد متطلبات زارعيها. أما الشمام فبالرغم من إنتاجه بكميات تجارية في برعشيت وصفد وبيت ياحون ونوعيته الممتازة إلا انه لا يلقى القدر الكافي من الاهتمام الرسمي، ما يمنع المزارع من قدرة الاستفادة منه على نطاق واسع حيث يبقى هم تصريفه مرتبطا بالمبادرة الفردية. أما الزيت والزيتون اللذان يعتبران منتجين مهمين في بعض القرى خاصة في الطيري وبنت جبيل وعيثرون وعين ابل فشأنهما شأن الشمام من حيث التصريف، إلا أن إمكانية تخزين الزيت لفترات طويلة تسهل من المناورة في عملية البيع من موسم لآخر، وخاصة أن إنتاج الزيتون يتم كل موسمين.
التجارة تبحث عن هويتها
لم تعد تشكل بنت جبيل نقطة التقاء أو مرور للقوافل التجارية، وهو المركز الذي كانت تتمتع به قبل احتلال فلسطين، كما ادى غياب اي خطة انمائية لهذه المناطق بعد التحرير الى فقدان تلك المنطقة حركة مالية كانت تشكل عاملاً في نموها، بعد ان تحولت اسواقها إلى أسواق استهلاكية للسكان المقيمين، بينما انخفضت بشكل كبير عمليات بيع الجملة التي كانت مزدهرة. وبالتالي شهدت تلك الأسواق انخفاضا حادا في أرقام مبيعاتها شتاءً لعدم وجود مدخول زراعي يومي كما يحصل صيفاً، ولقلة عدد السكان المقيمين بالمقارنة مع ما تشهده تلك المناطق صيفا (منطقة بنت جبيل مثلاً: نحو 75 ألف مقيم شتاء و130 ألفا صيفا)، علماً أن المقيمين في الصيف هم في غالبيتهم من المستهلكين باعتبار أنهم أما من المصطافين أو المغتربين.
وبرغم معرفة التجار بأن الحالة الاقتصادية في لبنان تعاني من جمود شامل يمتد من الشمال وحتى الجنوب مرورا ببيروت والبقاع إلا أنهم يسجلون عتبهم على استمرار الغياب الرسمي لإنماء مناطقهم برغم التحرير، ويشير الرئيس السابق لنقابة التجار في بنت جبيل طارق بزي الى "انه وبرغم التحرير الظاهري من الاحتلال إلا أن معظم الأهالي لم يتحرروا بعد من الحاجة والعوز إلى الدولة التي أثقلت علينا طلتها"، لذلك يتابع بزي "بأن التجار وقعوا في ازدواجية الانتماء، إما إلى مجتمع زراعي يحاول فقط تقديم الحاجات الاستهلاكية اليومية، وإما العمل على إعادة بناء السمعة التجارية لبنت جبيل التي عرفت بها والتي لا نستطيع بناءها بمفردنا، وخاصة ان الوعود الكثيرة التي أطلقت بعد التحرير لم ينفذ منها إلا اليسير واليسير فقط".
الصناعة فسحة أمل ما زالت ناقصة
على أن الصناعة المتميزة بقدرتها على تشكيل دورة اقتصادية مستمرة على مدار السنة، لا تزال غائبة عن بنت جبيل كمعظم المناطق المحررة، كما انها لم تكن تشكل مصدراً لعيش السكان، بل اقتصرت على بعض الحرف التي تخصصت فيها بعض القرى فارتبطت بها، فالمنطقة لم تشهد صناعات أو حرفاً على نطاق واسع باستثناء صناعة الأحذية، التي استطاعت في فتراتها الذهبية أن تقضي على زراعة الدخان في البلدة مع تحول معظم اليد العاملة إلى تلك الحرفة. ومع تعرض هذه الصناعة للنكسات الكثيرة التي كادت تقضي عليها، برزت ظاهرة الهجرة نحو بيروت والخارج حيث لا يعيش في بنت جبيل الآن أكثر من 3500 مقيم من مجموع سكان يناهز الـ50 ألف نسمة. وقد شكل المرسوم رقم 13273 "الحامي للصناعة الوطنية" بالنسبة لمن صمد في هذه الحرفة، فسحة أمل للعودة إلى صنعتهم التي عرفوا معها عهودا من الرفاهية في فترات عزها. ويعتقد حسن بزي أن صناعة الأحذية يمكن لها أن تساهم بشكل واسع في رفع المستوى المعيشي، وخاصة أنها تعتبر حرفة منتجة ومربحة من جهة وتحتاج إلى يد عاملة من جهة أخرى"، ولكنه يتابع "حتى لو عادت هذه المهنة إلى سابق عهدها فإن اعتماد شريحة واحدة على حرفة محددة يجعلهم في دائرة البطالة الجماعية في حال انتكست هذه المهنة لأي سبب كان كما حصل في الماضي"، لذلك يتابع بزي بأن الصناعات الزراعية يمكن أن تشكل صناعة موازية لصناعة الأحذية مثلا، وخاصة ان المنطقة تنتج بعض المزروعات بكميات تجارية كافية".
حتى أن جهاد الأحمد يجرؤ بأن يطلب إنشاء معمل لتصنيع الدخان حتى ولو كان احتكاريا، فهذه المنطقة التي تنتج كميات كبيرة من التبغ يقع عليها عبء زراعته وتعبه بينما الاستفادة من مردود تكاليف التصنيع تذهب إلى غيرهم، حيث يعتبر الأحمد "أن من شأن هذه الخطوة أن تساعد على تأمين فرص عمل من جهة، كما أن المزارع تزداد حوافزه للإنتاج عندما يكون له أخ أو ابن أو قريب يعمل في معمل التصنيع من جهة أخرى".
السياحة حبر على قرارات
برغم ما يعنيه القطاع السياحي بالنسبة إلى لبنان إلا أن هذا الاهتمام ما يزال يتركز في المدن الكبيرة والتي اكتسبت اسمها عبر عقود من الاهتمام الرسمي بها، بينما يبدو أن الدولة غير مهتمة بإيجاد مناطق جديدة لهذا القطاع. ففي بنت جبيل صنفت العديد من القرى كبلدات سياحية منذ عقود إلا أن لا شيء تغير منذ ذلك إلا التسمية. لذلك يجهد العاملون في هذا القطاع على قلتهم بالعمل على إدخال هذه المنطقة ضمن جداول الجولات الميدانية التي تقوم بها شركات السياحة، وخاصة ان السياحة التحريرية قد تشكل حافزا لبعض السياح لزيارة هذه المناطق، العرب منهم بشكل خاص. وقد شكلت الزيارة الأولى لوزير السياحة إلى المنطقة أملا لدى أصحاب هذه القطاعات من حيث رؤية بداية تحول في الاهتمام الرسمي السياحي بهذه المنطقة، الا انه سرعان ما خاب املهم بعد ان ذهبت كل الوعود ادراج الرياح. وكانت هذه المنطقة قد شهدت حركة سياحية نشطة نسبيا خلال الصيف الفائت بعد النصر الالهي الذي تحقق في آب 2006، فيما نقل أصحاب المطاعم إعجاب السياح بطبيعة هذه المنطقة وطقسها. ولا يخفي حسام بزي صاحب الفنادق الوحيد في بنت جبيل بأن اقدامه على إنشاء هكذا مشروع فيه الكثير من المغامرة، إلا انه يتابع "ولكن خصوصية هذه المنطقة وما عانته تستحق منا هذه المغامرة التي قد تخف مخاطرها إذا ما تداركت الدولة سياساتها السياحية".
دراسات ولكن..
وقد أجرى مجلس الإنماء والإعمار دراسات جدوى لبعض المشاريع الاقتصادية، حيث لحظت تلك الدراسات الفرق في عمليات التشغيل بين الصيف والشتاء، كما أنها لحظت ضرورة توافر مساعدات لتمويل تلك المشاريع، بالإضافة إلى الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في مجال حث المستثمرين على توظيف الأموال في هذه المناطق. علما أن هناك تقصيرا كبيرا من جانبها خاصة في موضوع الإنماء المتوازن الذي يشهد فروقا واسعة ودرجات كبيرة بين منطقة وأخرى، إن في موضوع الخدمات أو على صعيد الكهرباء والماء وما إلى ذلك من بنية تحتية.
وإذا بدأنا من الدراسات الخارجية فان (UNDP) أشارت في دراسة أعدتها حول الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، أن قضاء بنت جبيل من المناطق الأكثر فقرا في لبنان، وهو يضم بحسب تلك الدراسة نحو 68 بالمئة من فقراء الجنوب.
وعندما اقر مجلس الوزراء في جلسته المعقودة في 23 أيار من العام ألفين البرنامج الإنمائي للمناطق المحررة، كان على هذا البرنامج رفع مستوى الحياة الاجتماعية والاقتصادية لسكان هذه المناطق، إضافة إلى رفع عدد المقيمين فيها إلى الضعف خلال فترة خمس سنوات، وقد توزع المبلغ المقرر لهذه الخطة والبالغ 1200 مليون دولار على مختلف القطاعات الاقتصادية والإنمائية والاجتماعية، إضافة إلى المساعدات والتعويضات، وإذ اعتبر الأهالي يومها أن هذا البرنامج طموح جدا لدرجة انه يصعب تنفيذه في بلد تتقلب فيه السياسات كل خمس ساعات فكيف بخمس سنوات، أمل البعض يومها أن تتمكن الحكومات المتعاقبة من تنفيذ نصفه، إلا أن خيبة الأمل وقعت حين لم ينفذ من هذا البرنامج أكثر 80 بالمئة وما جرى تنفيذه منه اقتصر على مشاريع متفرقة هنا وهناك لم تأت بالنتيجة الإنمائية المتوخاة منها بسبب تفرقها. وحتى هدية التحرير التي اقرها مجلس النواب في جلسته الاستثنائية في بنت جبيل والتي تناقصت حتى 300 مليار فإنها لم تدفع بعد ولا يعرف أي شيء عن مصيرها.
على أن المواطن الجنوبي لا يريد قصورا مشيدة ولا أن يمشي على الحرير، حتى انه لا يحلم بركوب السيارات الفارهة التي تمر به نهاية كل أسبوع، وإنما يعز على هذا المواطن الذي لم يستطع اجتماع العالم عليه ثنيه عن تحرير أرضه، أن تتمكن منه كسرة خبز يتمناها البعض حتى لو كانت يابسة.
علي الصغير
الانتقاد/ العدد1268 ـ 23 ايار/مايو2008