ارشيف من :ترجمات ودراسات

"الحرب السرية المقبلة لاميركا وكيان العدو

"الحرب السرية المقبلة لاميركا وكيان العدو
جورج حداد*
ـ1ـ

يخطئ تماما كل من يخطر بباله للحظة ان "اسرائيل" ستنسى حرب تموز وتقرير لجنة فينوغراد، وحرب غزة وتقرير غولدستون، والمواجهة "النووية" مع ايران وقرار الامم المتحدة الاخير بالزام "اسرائيل" وضع ترسانتها النووية تحت الرقابة الدولية . وهذا ما يثير حفيظة الدول العربية التي فشلت دبلوماسيتها الجوفاء، لاكثر من خمسين سنة، في مجرد طرح موضوع الترسانة النووية الاسرائيلية على بساط البحث، ولكن بدلا من ان تبدأ الدول العربية في استخلاص الدروس اللازمة ومراجعة حساباتها حول اصول "اللعبة الدبلوماسية"، فإنها اخذت تتسابق لاستهداف الجمهورية الاسلامية ورئيسها الثوري محمود احمدي نجاد الذي جاء من موقع المقاتل في صفوف الحرس الثوري الى موقع رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية، والذي برهن للعالم اجمع ان الدبلوماسية الناجحة لا تعني الحذلكة والفذلكة ولبس ربطة العنق والثياب السوداء الرسمية الكالحة، والتحدث باللغة الوطنية برطانة اميركية او على الاقل انكليزية، بل تعني عدم الرهبة من الاعداء الاقوياء والثقة التامة بقوة الشعب والجماهير الفقيرة وهز القبضة الشعبية و"الصاروخية" بوجه الاعداء.

فلأول مرة في تاريخها تتعرض "اسرائيل" للهزيمة: ميدانيا، واخلاقيا، ودبلوماسيا. وهذا يعني ان "اسرائيل" ستكون مضطرة على الاقل، ان تتخلى عن سياسة العنجهية والعنتريات والتحدي والتهديد والوعيد التي كانت تنتهجها سابقا. ولكنها بطبيعة الحال لن تتحول في اي يوم من الايام الى "دولة مسالمة" و"جار مأمون الجانب" او "حليف" كما تأمل بعض الانظمة العربية والاسلامية، كالنظامين المصري والسعودي وما بينهما الاردني ووراءهم جميعا ما يسمى "السلطة الوطنية الفلسطينية"، وستلجأ من الآن وصاعدا لانتهاج الستراتيجية والتكتيك اللذين ينسجمان اكثر من اي شيء مع طبيعتها ووضعيتها، وهما ستراتيجية وتكتيك الافعى الرقطاء التي تتقلب وتتلوى لتختبى في التبن، وتترصد اللحظة المناسبة لتنقض وتنهش وتلسع بشدة ثم تعود لتختفي في التبن من جديد.

وقد لاحظ العديد من المراقبين ان "اسرائيل" التي تعمل بالتنسيق الكامل مع الادارة الاميركية، خففت ايضا لهجتها التصعيدية ضد ايران وسوريا وحزب الله، واخذت تتظاهر ان كل مناوراتها الحربية واستعداداتها العسكرية انما تجري بهدف "الدفاع عن النفس". وقد اطلق الدبلوماسي الاميركي المعروف جيفرى فيلتمان القائم بأعمال مساعد وزيرة الخارجية الاميريكية لشؤون الشرق الاوسط "بالون الاختبار" حول قيام سوريا بـ"تهريب" صواريخ سكود الروسية الصنع الى حزب الله، تماما من اجل مساعدة "اسرائيل" على تستير اهدافها العدوانية تحت ستار الخوف من صواريخ حزب الله و"الدفاع عن النفس".

ـ2ـ
عرفت الادارة الاميركية السابقة، اي ادارة جورج دبليو بوش، بالعنجهية والعجرفة والفظاظة، وقد ارتكبت الفظاعات في العراق وافغانستان، وضربت عرض الحائط بالقوانين والمعاهدات والقرارات والمؤسسات الدولية، وعلى رأسها الامم المتحدة، وبلغ بها الامر الى حد اقامة معتقل العار في قاعدة غوانتنامو وممارسة التعذيب فيه خلافا للقوانين الاميركية ذاتها.

ولكن بالرغم من كل سيئاتها، كانت ادارة بوش تمتاز بحسنة لا يمكن نكرانها وهي "صراحتها" او "شفافيتها"، فهي كانت تقول على المكشوف ما تريد فعله. وكانت تجند كل الآلة الاعلامية والدبلوماسية الاميركية الضخمة لاقناع العالم بـ"صوابية" سياستها. الى درجة انها كانت تطلق الاكاذيب للتأكيد على تلك الصوابية.

اما ادارة باراك اوباما، فهي على العكس تماما، من حيث الاسلوب فقط. اي انها تضع نصب عينيها الاهداف ذاتها التي كانت تضعها ادارة جورج بوش. الا انها، وبدلا من اثارة الضجيج الاميركي المعروف، تلجأ الى تطبيق الحكمة القائلة "واستعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان". وفي قضايا الحرب والسلم والتسلح، تنطلق ادارة اوباما من مبدأ "الحرب خدعة" و"الحرب مفاجأة".

ومثالا على ذلك كانت ادارة بوش قد ملأت العالم ضجيجا حول اقامة نظام صواريخ مضادة للصواريخ في بولونيا وتشيكيا. مما اثار المخاوف المشروعة لروسيا، التي هددت من جهتها بالاستعداد لنشر صواريخها المرعبة البعيدة والمتوسطة المدى، وبأنها ستمحو من الخريطة كل بلد يهدد الامن القومي الروسي.


ادارة اوباما على عكس إدارة بوش من حيث الاسلوب فقط فهي تضع نصب عينيها الاهداف ذاتها الا انها تلجأ الى الكتمان في قضايا الحرب والسلم والتسلح

وجاءت ادارة اوباما وفتحت دوشا باردا على العلاقات الاميركية ـ الروسية المتوترة، واعلنت بكل هدوء انها تتخلى عن مشروع ادارة بوش لاقامة نظام صواريخ مضادة للصواريخ على الاراضي البولونية والتشيكية، وطرحت بدلا عن ذلك مسألة الاسراع في صياغة مشروع "ستارت ـ 2" لنزع وتحديد اسلحة الدمار الشامل لدى اميركا وروسيا. ولكنها في الوقت نفسه اعلنت انها لن تتخلى عن اقامة قواعد صواريخ لمواجهة ما تسميه الادارة الاميركية "التهديدات" الايرانية. ولكن ادارة اوباما لم توضح شيئا ملموسا عما تزمع القيام به.

ـ3ـ

وفي هذه الاجواء التهدوية ـ التضليلية، كشفت الصحف المحلية في مدينة فارنا البلغارية عن عملية تجسس اسرائيلية كانت قد جرت قبل شهرين، او الأصح كانت الصحف الهنغارية قد اعلنت عنها قبل شهرين. لانه من المؤكد ان العملية مستمرة الى اليوم. وفي التفاصيل ان الصحف الهنغارية كانت قد نشرت في 18/3/2010 صور طائرتين اسرائيليتين من طراز "غولفسترييم G-550" وهما تحلقان فوق مطار بودابست. وقالت الصحف ان الطائرتين وصلتا الى هنغاريا، بعد ان حلقتا فوق تركيا، بلغاريا ورومانيا. وطلب رئيس الوزراء الهنغاري غوردون باينائي اجراء تحقيق حول الحادث.

وطائرة "غولفسترييم G-550" الاميركية، صنعت لاجل رجال الاعمال وتتسع لـ 16 شخصا؛ ولكنه جرى تكييفها وتزويدها بأجهزة تكنولوجية من اجل جمع المعلومات وأنظمة الكترونية لخوض المعارك. وقد جرى عرضها مؤخرا في مطار بن غوريون في تل ابيب وتم التعريف عنها بانها تمثل ردا على المناورات الحربية الايرانية وتجربة الصواريخ البالستية ذات المدى المتوسط والبعيد. وجرى عرض الطائرة في معرض فارنبوروي في انجلترا.

وقال الناطق باسم شركة الانتاج الاسرائيلية "اسرائيل آيروسبايس اندوستريس": ان هذه الطائرة "هي مزودة بالانظمة التكنولوجية الارقى لاجل الانذار المبكر، ويمكن ان تصل الى اي هدف، محدد من قبل الطيران".

اي ان الطائرة جرى تحويلها لتستخدم لاهداف تجسسية دقيقة. وتقول الاسوشيتد برس ان هذه الطائرة هي احدث طائرة تجسسية اسرائيلية ويمكن ان تميز ادق الاهداف على الارض، ويمكن ان تستخدم لجمع المعلومات التجسسية عن ايران.

وقد ربطت الصحف الهنغارية بين وصول هاتين الطائرتين الاسرائيليتين إلى مطار بودابست وبين حادث اغتيال مواطن سوري في الـ52 من العمر وهو في سيارته في احد شوارع بودابست، اذ جرى حادث الاغتيال في الوقت ذاته الذي كانت فيه الطائرتان تحلقان على ارتفاع منخفض فوق المطار الا انهما لم تحطا فيه. وقد اطلق مجهول النار على السوري، واستولى على حقيبته من السيارة وفر هاربا. والضحية لديه جنسيتان هنغارية وسورية ويعيش في هنغاريا منذ اكثر من 20 سنة.

وقد بررت الحكومة الهنغارية وصول الطائرتين التجسسيتين الاسرائيليتين الى مطار بودابست بانهما كانتا تجريان "تدريبات روتينية". الا ان السفيرة الاسرائيلية في بودابست اليسا بن نون اكدت ان الطائرتين ليستا تجسسيتين، ولكنهما تابعتان للقوات الجوية الاسرائيلية، وكانتا تقومان باجراء مناورات، كالتي تجري في مطار مدينة فارنا في بلغاريا. واكدت وزارة النقل البلغارية انه اعطي تصريح كي تقوم طائرتان حكوميتان اسرائيلتان من طراز "غولفسترييم" باجراء تدريبات على الاراضي البلغارية.

وجاء على لسان الوكالة الوطنية للنقل في هنغاريا ان هذه التحليقات التدريبية في بودابست كان مصرحا بها.وقد دخلت الطائرتان الى بلغاريا من تركيا وخرجتا باتجاه رومانيا ثم هنغاريا. وفي طريق العودة من رومانيا قامتا بتحليق تدريبي في مطار فارنا ثم واصلتا الطيران الى تركيا.
وفي الايام الاخيرة قام الامين العام لحلف الناتو اندريس فوغ راسموسين بزيارة بلغاريا والتقى رئيس الوزراء بويكو بوريسوف. وصرح راسموسين "ان بلغاريا تلعب دورا مفصليا في اندماج الدول البلقانية في اوروبا والاطلسي". ومن جهته اعلن بوريسوف "اذا كان نظام الصواريخ المضادة للصواريخ اصبح يدخل في عقيدة الناتو فإن بلغاريا ستشارك فيه".
يعتقد بعض المراقبين انه جرى نصب صواريخ أميركية ـ اسرائيلية في قاعدة بورغاس البلغارية وكذلك في رومانيا وهنغاريا بدلاً من بولونيا وتشيكيا وأن هذه القواعد ستشترك بأي اشتباك محتمل بين "اسرائيل" وبين ايران وسوريا وحزب الله
 

كما زار بلغاريا لمدة يومين رئيس المخابرات المركزية الاميركية ليون بينيتا، والتقى بشكل خاص رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف وقالت الوكالات والصحف المحلية ان لقاءاتهما كانت ناجحة جدا. ويقدر بعض المراقبين:


أ ـ انه يجري دمج بلغاريا وغيرها من الدول البلقانية "الاشتراكية" سابقا وغيرها، في المشاريع العدوانية الاطلسية ـ الاميركية ـ الاسرائيلية، مقابل دعمها ماليا بمواجهة الازمة المالية العالمية.

ب ـ ان الجولات التي تقوم بها طائرات التجسس المتطورة "غولفسترييم G-550" انما تهدف الى تحقيق مهمات متعددة الجوانب هي:
اولا ـ اجراء مسح تجسسي كامل للبلدان المحددة، لكشف اي "انظمة مضادة" موجودة في هذه البلدان ومزروعة سابقا من قبل السوفيات او لاحقا من قبل الروس وغيرهم.

ثانيا ـ وضع "خريطة" لزرع انظمة وقواعد تجسسية وعسكرية للاطلسي واميركا و"اسرائيل".

وثالثا ـ رسم تصاميم بيانية لخطوط المسار التقريبية لـ"الصواريخ الذكية" وغيرها من الاجسام الجوية القتالية والتجسسية، التي يمكن ان تنطلق لاحقا (من اين الى اين) من البلدان البلقانية المعنية الى الاهداف المحددة في روسيا وايران وسوريا ولبنان.

ويقول بعض المراقبين انه لا احد يدري ماذا يجري في القاعدة الجوية الاميركية في مدينة بورغاس (على البحر الاسود) البلغارية، وانه من المرجح انه جرى نصب الصواريخ الاميركية ـ الاسرائيلية فيها، كما في رومانيا وهنغاريا، بدلا من بولونيا وتشيخيا، وان هذه القواعد ستشترك بأي اشتباك محتمل قادم، بين "اسرائيل" (وحليفتها الستراتيجية اميركا) وبين ايران وسوريا وحزب الله، مجتمعين ومنفردين. وتحرص اميركا على ان يكون ذلك مفاجأة حقيقية "للاعداء"، حتى تحقق اقصى النتائج المطلوبة منها. وعملية التدريبات والمناورات والمسح التي تقوم بها هذه الطائرات التجسسية الاسرائيلية انما ترتبط بمهمات الاشتباك القادمة المحتملة.

ـ4ـ

انه من المرجح ان اميركا و"اسرائيل" ستتجنبان في المرحلة القادمة الانزلاق الى المواجهة الميدانية التقليدية مع "العدو". كما انه من المستبعد ان تنزلق "اسرائيل" الى حرب مبارزة وتراشق الصواريخ مع المقاومة في لبنان، لانها ستكون الخاسر حتما في مثل هذه الحرب، لانه ولو تساوى الطرفان في القوة الصاروخية، فإن قدرة احتمال "اسرائيل" والاسرائيليين لا تقاس بقدرة احتمال لبنان واللبنانيين.

ولكن استنادا الى "تجربتهما" السابقة في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، التي لم يكشف النقاب عنها حتى الان، فإنه من المرجح الاستفادة من الامكانيات التي تتيحها لهما امكانيات التكنولوجيا المتطورة والاجهزة الفضائية والامكانيات والخبرات التجسسية للقيام بنوع جديد من العمليات الحربية "السرية" "النوعية"، خصوصا على مستوى الاغتيالات الموجهة ضد شخصيات محددة، كالرئيس ومرشد الثورة في ايران، والرئيس السوري، وزعيم المقاومة السيد حسن نصرالله وغيره من قادة المقاومة في لبنان وفلسطين، والمفاعلات النووية وغيرها من الاهداف الستراتيجية في البلدان "المعادية". على ان تكون تلك الضربات "ملتبسة" الى درجة لا يكاد ان يعرف مصدرها: هل هو من المواقع الاميركية، او من المواقع الاسرائيلية، او من المواقع الاميركية في "اسرائيل" او المياه الاقليمية الاسرائيلية، او من المواقع الاسرائيلية "المستضافة" في القواعد الاميركية المنتشرة في المحيط الايراني والعربي من اوروبا الشرقية وتركيا الى اسيا الوسطى الى افغانستان وباكستان الى البلدان المشرقية العربية وغيرها.
ــــــــ

* كاتب لبناني مستقل























 

2010-06-06