ارشيف من :آراء وتحليلات

مجزرة "أسطول الحرية": الدلالات والتداعيات المنظورة وغير المنظورة

مجزرة "أسطول الحرية": الدلالات والتداعيات المنظورة وغير المنظورة
مصطفى الحاج علي

استحوذت المجزرة الاسرائيلية بحق "أسطول الحرية" على كامل المشهد السياسي والاعلامي، وهذا أمر طبيعي لأن رسالة "الأسطول" أولاً، ودموية الحدث ثانياً، والفضاء الانساني والأخلاقي الأوسع الذي تحركت فيه تفاعلاته ثالثاً، تفرض أن تكون له هذه الوطأة، وأن يستدعي وقفة خاصة لاستنكاه دلالاته، وسبر أغواره، واستكشاف آفاقه المحتملة.
كان يمكن للحدث أن يمر عادياً: يسمح للأسطول بالعبور ضمن شروط أمنية ومتابعة عسكرية، ويأخذ الكيان الاسرائيلي لنفسه صورة مغايرة، حيث لا يبدو أن حصاره لغزة حصاراً يراد منه قتل الغزاويين ببطء، وإنما مجرد حصار عسكري وأمني لحركات مقاومة يخشاها، وكان ـ بالتالي ـ بإمكانه أن يوفر على نفسه كل هذا الصخب العالي من التنديد، والمحاصرة لصورته "الأخلاقية" المتضعضعة أصلاً على الصعيد العالمي، إلا أن الاصرار الاسرائيلي على منع الأسطول من إكمال مهمته الانسانية، بل أكثر من ذلك الإصرار الاسرائيلي على إنهاء الأمر في المياه الدولية، وعدم السماح للأسطول بدخول المياه الاقليمية الفلسطينية المحتلة، يعني ومن قبيل التفسير وليس التبرير ـ أن لدى الكيان الاسرائيلي قراءة أخرى، ورسائل معاكسة يريد ارسالها لمن يهمه الأمر:
الكيان الاسرائيلي لم ينظر الى حدث "أسطول الحرية" كحدث مفرد أو معزول، بل كسياق مطّرد 
أولاً: من الواضح، أن لدى الكيان الاسرائيلي اصراراً على إدامة عمر الحصار، ما دام لم يحقق منه الأهداف المطلوبة حتى الآن، والمتمثلة على نحوٍ رئيسي بكسر إرادة الغزاويين على المقاومة، وهو يعتبر أن الوضع الحالي مثالي لجهة ابقاء الوضع في غزة تحت الضغط المعيشي، والتحكم بمصير حياته، وحرمان المقاومة من آفاق ضرورية، وإبقاء الوضع الفلسطيني مشرذماً بين الضفة والقطاع في ظل القرار الدولي أيضاً القاضي بمنع وإفشال أي محاولة لإصلاح الأمور، والأهم بالنسبة للإسرائيليين هنا، أن هذا الحصار يحظى بغطاء دولي وعربي رسمي، ويساهم فيه بعض الأنظمة العربية مباشرة أو بطريقة غير مباشرة.
من هنا، فإن أي محاولة لخرق هذا الحصار من خارج إطار استراتيجية الموت البطيء أو الإمساك بحياة القطاع عبر اليد الاسرائيلية لن يسمح بها هذا الكيان لأنه سيرى فيها دفرسواراً استراتيجياً للحصار نفسه، وللغطاء الدولي ـ العربي الذي يحظى به، اضافة الى كونه سيشكل شاهداً من جهة، وعامل إدانة له من جهة أخرى، وهذا ما يفسر اصراره حتى ليس على منع وصول المساعدات الى شاطئ غزة بل حتى الى المياه الاقليمية لغزة.
ثانياً: ان الكيان الاسرائيلي لم ينظر الى حدث "أسطول الحرية" كحدث مفرد أو معزول، بل كسياق مطّرد منذ مدة، حيث سجلت محاولات عديدة في السابق، ومن المتوقع استمرار هذه المحاولات، هنا، تتمثل الحاجة الى قرار حاسم وحازم وبمعزل عن الكلفة، لأن المطلوب حماية الحصار بقوة ردع تضع حداً لمثل هكذا محاولات ومساع من خلال رفع كلفتها، ومسألة الردع اليوم بالنسبة للكيان الاسرائيلي باتت قضية استراتيجية بالغة الأهمية لا سيما اذا ما نظرنا الى التآكل الاستراتيجي الذي أصابها اقليمياً وبالنسبة الى المقاومة في لبنان، والآن بالنسبة الى غزة، فقضية الردع قضية شاملة ولا يمكن تجزئتها بالنسبة لهذا الكيان.
ثالثاً: إن هذا الكيان، وتحديداً على مستوياته الأمنية والعسكرية، يعاني حالة من العصاب النفسي جراء تفاعل مجموعة من العوامل التي باتت مستحكمة به: قوة كبيرة ـ فشل ذريع ـ اضمحلال امكانيات تفريغ هذه القوة بسهولة كما كان الأمر في السابق، ولذا، فإن هذا الكيان يبحث عن منافذ ولو صغيرة لتفريغ جزء من الاحتقان الداخلي الذي يعانيه حتى لا تنفجر طنجرة الضغط بصاحبها.
رابعاً: ان للحدث أيضاً طابعه الشخصي اذا جاز التعبير، فهو يعني مباشرة المسار الذي دخلت به العلاقات التركية ـ الاسرائيلية منذ فترة، وهو مسار أقل ما يقال فيه انه غير طبيعي لا بالنسبة لتركيا ولا بالنسبة للكيان الاسرائيلي، وثمة رائحة قوية انبعثت من دم الضحايا تقول بأن الاسرائيلي تعمد اقصاء تركيا برسالة انزعاج دموية سواء في محاولاتها المستمرة والدؤوبة لحجز موقع ودور لها كقوة ودولة اقليمية كبيرة في المنطقة الى جانبها وجانب ايران، وذلك من خلال تشغيل قدراتها الديبلوماسية، أم من خلال محاولاتها الأخيرة المتمثلة بانجاز اتفاق تبادل اليورانيوم مع ايران وبالشراكة الكاملة مع البرازيل، هذا الاتفاق الذي وجد فيه الكيان الاسرائيلي نصراً كبيراً لإيران، ونكسبة لاستراتيجيته الخاصة بابقاء هذا الملف سيفاً مصلتاً فوق ايران والمنطقة لإشغال الجميع به، ولاستنزاف المنطقة عموماً ومحور المقاومة من خلاله.
هذه الحسابات الاسرائيلية لم توافق بيدر الدم الذي أزهق، حيث تفوّق عليها لاعتبارات عدة أبرزها:
أولاً: عادت اليوم قضية غزة الى واجهة الاهتمامات الفلسطينية والعربية والدولية والاقليمية، وبالتالي، فبدلاً من منع حدوث ثغرة في جدار الحصار، ها نحن نشهد اليوم ضغوطاً كبيرة على كل جدار الحصار من شأن نتائجها واستمرارها ان تقوضه نهائياً، ما يعني ان فك الحصار قد انطلق عملياً وان لم يترجم بشكل نهائي قريباً.
ثانياً: لقد أوجد الحدث وبمعزل عن النوايا والدوافع الخاصة بكل طرف، فرصة لإعادة الدفع لعملية المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية في المدخل الأنسب للجميع.
ما جرى شكل صفعة قوية، وخيبة كبيرة لخيار التسوية، ولأصحاب هذا الخيار
ثالثاً: لا شك، أن ما جرى شكل صفعة قوية، وخيبة كبيرة لخيار التسوية، ولأصحاب هذا الخيار، وهم اليوم يتخبطون في حرج شديد، وإن كان لا يعوّل كثيراً على حدوث تحول نوعي في مسار مواقف الأنظمة العربية، إلا أن المعوّل عليه هو ديناميات الوعي والتحفيز النوعي الذي سيطلقه الحدث بدمويته في شرايين الشعوب العربية والاسلامية، لا سيما لجهة اعادة تظهير القضايا الحقيقية للأمة والمتمثلة بالصراع مع العدو الاسرائيلي، والإمعان في فضح طبيعة العدو الاسرائيلي، والنفاق الاميركي.
رابعاً: ان الحدث يعزز ويقوي منطق وخيار المقاومة بما هو المنطق والخيار الوحيد الذي يفهمه هذا العدو، ولا سيما أن ما جرى لا يدع مجالاً للشك ، بأن العدو الاسرائيلي لا يتحمل أي شكل من أشكال المقاومة وأساليبها حتى لو كانت ديبلوماسية وانسانية.
خامساً: ان ما جرى يحجز لتركيا حضوراً مهماً على مستوى الصورة الاعلامية والسياسية والمعنوية في المنطقة، وهي صورة تحرص عليها منذ مدة، من ضمن أطر واستراتيجية البحث عن موقع ودور اقليمي متعاظم يرتكز على البعد الاقتصادي من جهة، والبعد السياسي ـ الديبلوماسي من جهة أخرى، اضافة الى البعد الأمني، وكل ذلك في سياق تقوية موقع تركيا التفاوضي للدخول الى الاتحاد الأوروبي.
سادساً: لا شك، أن الاعتبار المعنوي حاضر بقوة في مجمل الحسابات التركية الآن، ولا يتوقع ان تتعاطى مع ما جرى بأقل مما تعاطت به حتى الآن، إلا أن هذا لا يعني أيضاً، أن خيارات تركيا سهلة، فالتناقضات التي تحكم المشهد التركي، والمصالح الاقتصادية والأمنية التي تربط تركيا بالكيان الاسرائيلي، اضافة الى حسابات تركيا الخاصة بالدخول الى نادي الاتحاد الاوروبي، وكونها جزءاً من الحلف الاطلسي، ستملي عليها مواقف محسوبة بدقة وذكاء.
وفي مطلق الأحوال، فإن العلاقات التركية ـ الاسرائيلية تكاد تقف اليوم في مفترق طرق حساس، وفي ضوء حسم اتجاهاته ستنحسم صورة الكثير مما يجري في تركيا اليوم، خصوصاً في ما يتعلق بهويتها الاسلامية.
وما يمكن قوله هنا، ان مجمل مسار توتر العلاقات التركية ـ الاسرائيلية منذ مدة يكاد يلامس حسم هوية تركيا لخياراتها السياسية بالاتجاه الأقرب لقضايا المنطقة فلسطينياً واقليمياً، وهذا بحد ذاته أمر بالغ الأهمية.
سابعاً: ان المياه العكرة التي تجري اليوم في نهر العلاقات التركية ـ الاسرائيلية لها رافد أساسي يفضي الى العلاقات التركية ـ الاميركية اليوم، والتي تحتاج بدورها الى مراجعة ووقفة خاصة.
كل ما تقدم، يضعنا أمام مشهد اقليمي جديد تتحدد على نحو حاسم مراكز القوى الجيوبوليتيكة فيه، وهي مراكز موزعة على كل من ايران ـ تركيا، والكيان الاسرائيلي، ما يرسم حدوداً لموقع ودور هذا الكيان في المنطقة، وهذا ما لا يتحمله أيضاً.
"أسطول الحرية" سيحفر عميقاً في المنطقة وتداعياته غير المنظورة رهن الأيام المقبلة، ويكفي خلطه للصورة مجدداً، وارباكه لمناخات التسوية الظالمة، وإعادة تصويبه لبوصلة التحديات، وتأشيره مع غيره من المؤشرات على أن العصر الاسرائيلي دخل في مرحلة الزوال.
2010-06-07