ارشيف من :خاص
أنقرة تستعيد نفوذها بعد "فرار" واشنطن
انكفاءت ادارة الرئيس الأميركي باراك أوباما نحو الداخل، بحسب ما تؤشر وثيقة الأمن الوطني الأخيرة، تفرز منذ مدة تحولات اقليمية وعالمية، أحد مسارحها الشرق الأوسط حيث يتقدم الموقف التركي واجهة التبدلات في المشهد الجديد.
أسباب هذا التحول في موقف "الحليف الاستراتيجي" لواشنطن حتى السنوات الأخيرة كانت محل نقاش في تقرير بحثي نشرته "نيويورك بوست" ووضعه كل من دايفيد شينكر، مدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن ومنسّق "ثورة الأرز" في لبنان وجوديث ميلر المحللة في قناة "فوكس نيوز" والباحثة في معهد "مانهاتن".
----------------------------
خلال زيارته إلى البيت الابيض قبل ستة أشهر، قال رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن أنقرة تتطلع إلى بناء "شراكة نموذجية" مع واشنطن.
أحقاً...؟
يقود أردوغان الجوقة لإدانة إسرائيل في أعقاب الإعتراض الفاشل التي قامت به لـ "أسطول الحرية" الذي كان متجهاً إلى قطاع غزة؛ وقد وصف رئيس الوزراء التركي عمليات قتل تسعة نشطاء بأنها "مذبحة دموية".
بإمكان فهم ذلك بصورة سطحية: لقد تم تنظيم ذلك الأسطول الصغير من قبل تركيا وقام بالإبحار منها؛ ورفعت تلك السفن الأعلام التركية وكان أربعة من ركابها الذين قتلوا أتراكاً.
بيد ان تركيا لعبت دوراً رئيسياً في الإستعدادات التي أدت إلى وقوع ذلك الحادث، برفضها طلبات إسرائيلية ومصرية لمنع السفن من الإبحار. وبمساعدتها في التحضير لتلك الأزمة، لم تضر تركيا بإسرائيل فحسب، ولكنها تتدخل في إحدى الأهداف العليا للسياسة الخارجية للولايات المتحدة التي هي حليفتها من الناحية الظاهرية.
ففي الشهر الماضي، وصفت إدارة أوباما "السلام الشامل بين إسرائيل وجيرانها" كـ "أولوية قصوى بالنسبة للأمن القومي" للولايات المتحدة. فبعد جهود دامت أشهر عمل خلالها فريق من قبل إدارة أوباما على البدء ثانية بمفاوضات إسرائيلية فلسطينية، والتي استؤنفت قبل أسابيع قليلة فقط، لأول مرة منذ ما يقرب من 18 شهراً، وجاءت بصورة "محادثات قرب" حديثة التولد، برعاية الولايات المتحدة.
وفي هذا السياق، يبدو أن موعد وصول "أسطول غزة"، الذي كانت إسرائيل مصممة على وقفه، كما فعلت تجاه الجهود السابقة لكسر الحصار، قد تم توقيته بصورة متعمدة لإثارة وقوع حادث يؤدي إلى إحباط تلك المحادثات. وكحد أدنى، وجد الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه مضطراً لتوصيف الحادث على أنه "عزم إسرائيل المسبق مع سبق الإصرار ... على قتل صانعي السلام المزعومين الذين كانوا على متن السفينة". من الصعب اعتبار ذلك التصريح بداية مبشرة لمحادثات السلام.
لم يكن هذا الأسطول الصغير سوى المبادرة التركية الأخيرة التي تقف معارضة لأهداف الرئيس أوباما. فقد أحبطت أنقرة مؤخراً أيضاً سياسات الولايات المتحدة تجاه إيران والعراق.
في أيار/مايو المنصرم، توسطت تركيا والبرازيل في إتفاق التخصيب النووي الذي تم التوصل إليه مع إيران، والذي قالت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بأنه يجعل العالم "أكثر خطورة، وليس أقل خطورة". ويُعقِّد الإتفاق إلى حد كبير مهمة الإدارة الأمريكية الهرقلية بالفعل، والتي تهدف إلى بناء تحالف دولي لفرض عقوبات على إيران لمحاولتها صنع قنبلة نووية.
وفي الواقع، يعارض اردوغان علناً العقوبات التي تدعمها الولايات المتحدة ضد إيران. ونتيجة لذلك، تحاول إدارة أوباما فرض موعد التصويت على العقوبات المقترحة في مجلس الأمن الدولي قبل تولي تركيا رئاسة المجلس بالتناوب في وقت لاحق من هذا الصيف.
وفي الأسبوع الماضي فقط، استضافت تركيا مؤتمراً لجماعات عراقية مسلحة تسعى لإعادة ترتيب صفوفها في الوقت الذي تستعد فيه الولايات المتحدة للإنسحاب من العراق. لقد كان مؤتمر اسطنبول واحداً من تجمعين تم انعقادهما مؤخراً (الآخر في دمشق) واللذان أدانهما رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي كـ "مزعزعان للإستقرار"، حيث قال: "المستفيدون الوحيدون هم «القاعدة» والتنظيمات الإرهابية".
وبطبيعة الحال، إن تدهور علاقات أنقرة مع القدس هو أكثر وضوحاً؛ وقد تمثل ذلك بإبطال الدعوة التي وجهت إلى إسرائيل للإشتراك في المناورات العسكرية التي أجراها حلف شمال الأطلسي في العام الماضي، وإلغاء مناورات مشتركة أخرى هذا العام في أعقاب حادث الأسطول الذي وقع مؤخراً.
ولكن يجب على واشنطن أن تكون قلقة أيضاً من قيام تركيا في العام الماضي بإجراء مناوراتها العسكرية الأولى من نوعها مع سوريا، التي صنفتها حكومة الولايات المتحدة كدولة راعية للإرهاب. وبالمثل، وقَّعت أنقرة على العديد من الإتفاقيات للتعاون الأمني مع طهران.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو لماذا اختارت أنقرة أن تغير من طبيعة تحالفها الإستراتيجي الطويل الأمد مع واشنطن وإبداله بتنافس إستراتيجي؟
لم تعد تركيا، في ظل حكومة «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي، ملتزمة بالقومية العلمانية. فبعد أن تم رفض إنضمامها إلى عضوية الإتحاد الأوروبي، تنظر أنقرة ثانية إلى الشرق الأوسط بأنه مجال نفوذها الطبيعي.
إن عزم إدارة أوباما على ما يبدو، على الفرار من المنطقة في أسرع وقت ممكن، يساعد «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي على تنفيذ أجندته كما يؤدي إلى تحريضه على القيام بذلك. وينعكس هذا في ترابط زيادة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان مع بدء إنسحابها العسكري السريع من تلك البلاد في صيف عام 2011. أما في العراق، فإن الجدول الزمني هو أقصر من ذلك، حيث ستنسحب منه معظم القوات الأمريكية المقاتلة بحلول نهاية هذا الصيف.
إن "الفراغات في السلطة" من هذا النوع، لا تدوم مطلقاً مدة طويلة. فطالما يُنظر إلى إدارة اوباما بأنها تقوم بتخفيف علاقاتها مع دول حليفة للولايات المتحدة منذ فترة طويلة؛ إسرائيل ومصر على وجه الخصوص؛ وتقلص من وجودها العسكري، فإن العديد من اللاعبين في المنطقة إن لم يكن أكثرهم سوف يستنتجون بأن الولايات المتحدة قد اختارت الخروج من الصراع حول مستقبل الشرق الأوسط.