ارشيف من :ترجمات ودراسات

من غيّر وجه الكيان الصهيوني ...؟ والعالم ...!

من غيّر وجه الكيان الصهيوني ...؟ والعالم ...!

المصدر: مركز باحث للدراسات/حسن شقير/ باحث وكاتب سياسي لبناني
بكلماتٍ مختصرةٍ وقصيرةٍ ...والتي لم يستطع الكثيرون حينها – وبصراحةٍ مطلقة – إدراك جميع معانيها ومدلولاتها الكلّية .. وبحيث أنني آليت على نفسي وقتها , ولبرهةٍ ليست بوجيزةٍ من الزمن , أن أتمعّن بها ملياً ... إلى أن أخذتني ضالّتي إلى تركها للزمن اللاّحق لها ... محاولاً حينها محاكمة فهمي الخاصّ لها ..سلباً كان أم إيجاباً !
" إنه نصرٌ إستراتيجي وتاريخي ... وسيُبنى عليه الكثير الكثير..حاضراً، وفي المستقبل ...". هي بضعٌ من كلماتٍ ردّدها الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله , وذلك عشيّة توقّف "العمليات العسكرية العدائية" الصهيونية على لبنان في حرب تموز من العام 2006 . 
لن أعود في الزمن إلى الوراء كثيراً , وخصوصاً إلى تلك الحقبة التي تلت الأحادية القطبية في العالم , حيث سيطرت الولايات المتحدة الأميركية على المفاصل الأساسية للعالم , معلنة قيام النظام العالمي الجديد , وتحديداً بُعيد سقوط الإتحاد السوفياتي السابق وانهيار الحلف الإشتراكي من وراءه ... حيث تأطّرت يومها في ذاك النظام الجديد , دول الغرب والشرق بمجملها خلف (العم سام) الأميركي وسياساته التوسعية المتوحشة , والتي – للتذكير فقط – لم ولن ترحم حتى أقرب المقرّبين إليها !
تلك حقبة تاريخية قد خلت ... ولكن ماذا عن تلك الحقبة التي تلت باليسير من الزمن حرب تموز ال 2006 , وصولاً إلى يومنا هذا ؟ 
في هذه الدراسة المختصرة، سنرصد أهمّ تلك التحوّلات والتبدّلات الكبرى التي حصلت في السوح العالمية, وعلى مستوياتها وصعدها المركزية والمؤثّرة .. وخصوصاً بعد تلك الحرب – الفيصل في العام 2006 .
حريٌ بهذه الدراسة الإستيلادية - التحليلية , أن تنطلق بداية من قلب مواطن الصراع في العالم , مع ذاك الكيان الصهيوني العنصري, بجناحيه الداخلي على أرض فلسطين , والخارجي على أراضي النفوذ ومواقع الرّفد له في العديد من الساحات العالمية الأخرى ..وذلك في محاولةٍ لقياس تلك التحوّلات الطارئة في تلك المواطن , وعلى مختلف الميادين والأصعدة , باعتبار أن أوانها قد حان وقته في حركة الزمن ..لنتحوّل بعدها إلى تلك الحاضنة الأميريكية للصهيونية مع معظم معاونيها من الأوروبيين ... وصولاً إلى رصد نتائج تلك التداعيات على الساحتين العربية والإقليمية ...معرّجين وبشكلٍ موجزٍ على التحوّل الروسي الحتمي , كنتيجةٍ طبيعيةٍ لكلّ ما تقدّم ..
أوّلاً: التحوّل في الساح الصهيونية: 
أ-في الإستراتيجيا: قامت العقيدة الصهيونية , ومنذ نشوء الكيان الصهيوني – وكما يذكر بن غوريون – على مبدأ البحث عن التهديدات الأمنية ومهاجمتها ... وبالتالي، فقد عملت تلك العقيدة على بلورة إستراتيجيات الهجمات والغزوات المتلاحقة , من حرب النكبة (1948) إلى حرب تموز (2006) وحرب غزّة (2008-2009). 
وطوال هذه الحقبة, بقيت تلك الإستراتيجيات محافظة على جوهرها , وإن طوّرت في أساليبها حيناً , ومنتقية لأهدافها ومشعِّبةً لها في أحيانٍ كثيرة ... إلاّ أنها لم تتزحزح يوماً عن فكرة مهاجمة (العدوّ) وتصفيته ...أينما وُجِد .
بُعيد الحرب- الفيصل في العام 2006 , وما تمخّضت عنها من نتائج على أرض الميدان , بدأت ملامح تلك الإستراتيجيا بالتبدّل في الجوهر, وليس في التكتيك هذه المرّة ..حيث أضحت تلك العقيدة مجبرة على التحوّل والإنزلاق نحو الإنطوائية ! وذلك برز جلياً في المؤتمر الصهيوني التاسع في مدينة (هرتسيليا ) الصهيونية .. والذي ركّز في جدول أعماله حينها على مبدأي: يهودية الدولة , ومبدأ تبادل الأراضي مع العرب والفلسطينيين ...
ولكن، كيف تمظهرت تلك الإستراتيجية ؟ 
في العام 2007 , كتب المنظّر الصهيوني ( داني بركوفيتش ) – وهو بالمناسبة يعمل لصالح مركز الأمن القومي الصهيوني – كتاباً , جاء تحت عنوان " هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ معركة إضعاف حزب الله"
مفصّلاً في بعض فصوله لبعض الإستراتيجيات – والتي يعتبرها الفضلى – في الصراع مع قوى الممانعة والمقاومة .. حيث أنها اتسمت بطابعٍ إضعافيٍ مثلّث الأبعاد , وبلا قطرة دمٍ واحدة ..فكان من بينها: 
-إستراتيجيات إضعاف قوّة العقيدة.
-إستراتيجيات إضعاف قوّة التجذّر الشعبي.
-إستراتيجيات إضعاف قوّة الروابط ألإقليمية.
هذا (الكرم الحاتمي ) في تبنّي هذه الإستراتيجيات النظيفة ضدّ قوى المقاومة – وتحديداً مع حزب الله- , تكرّس لاحقاً بُعيد الحرب الصهيونية على قطاع غزة في بداية العام 2009 , حيث وضع زميل بركوفيتش في المركز نفسه , والمدعو ميخائيل ملشتاين , دراسة في كانون الأوّل من العام 2009 , والتي عبّر فيها عن استحالة القضاء على المقاومة عسكرياً , واصفاً هذه الأخيرة " بالكيان المتنوّع الأبعاد " والذي يخلط ما بين النظامي واللانظامي في عمله العسكري الحديث ... معتقداً أن النصر في الحرب المقبلة , يتوقّف على مدى التحوّل في المراكزالمدنية التي تتبلور فيها فكرة المقاومة في وعي الجمهور العربي والإسلامي .
إنها المفاعيل الأولى لتلك الحرب على خارطة الإستراتيجية الصهيونية المطوّرة رغماً عن واضعيها !
ب-في البنى التفكيرية للعقل الصهيوني: "إسرائيل تتعرّض لتهديداتٍ وجودية. ومن دون التقليل من أهمية التهديدات من الأعداء الخارجيين , نحن ندرك أن الخطر يوجد أيضاً في الإحتلال وفي إستمرار انتشار المستوطنات في الضفة الغربية , وشرقيّ القدس . هذه السياسة مغلوطةٌ أخلاقياً وسياسياً على حدٍ سواء , وهي تغذّي المسيرة غير المعقولة في نزع الشرعية , والتي تمرّ بها إسرائيل في العالم..." 
إنه مقطعٌ من وثيقةٍ سُمّيت ب" نداء العقل " الصهيوني, والذي أُعلِن فيها عن تأسيس تجمّعٍ أوروبيٍ يهودي جديد, أُطلِق عليه إسم "جي كول"، على غرار ذاك التجمّع المماثل له في أميركا , والذي يُدعى "جي ستريت " .. حيث أنهما يدعمان (إسرائيل ) , ولكنّهما يطالبان في الوقت نفسه , بما يُسمّى بالسلام مع الفلسطينيين على أساس حلّ الدولتين ! 
"جي كول " الأوروبي , وُقّع في بروكسل في الثالث من أيار الحالي , وقد جمع أكثر من ثلاثة آلاف مفكّرٍ يهودي , توزّعوا بين فلاسفة ورجال قانون وسياسة وصحافيين ... وغيرهم من مختلف الشرائح البارزة .. والتي هي بالمناسبة , ليست كتلك الوجوه الشابة في "جي ستريت" , والتي يُقال عنها أنها لم تُعايش (الهولوكوست) , إنما "جي كول " مُطعّمة بتلك الوجوه المخضرمة والمتميّزة في العمل السياسي ... وللتذكير فقط أن منظمة " جي ستريت " هي منظمة منبثقة عن "إيباك " ( اللوبي الصهيوني الأساسي) في أميركا , حيث أنها وُلِدت في العام 2008 , والتي تتشابه أهدافها إلى حدٍ بعيدٍ مع أهداف نظيرتها الأوروبية.
إنه النصر الذي أحدث ذاك الإنشقاق في اللوبي الصهيوني, معيداً صياغة عقيدته الصقورية – رغماً عنه- إلى العقيدة الحمائمية ... والتي ستنحدر أكثر فأكثر – مع مزيدٍ من الصمود والممانعة من قِبلنا - نحو مزيدٍ من العقيدة ( المعقلنة قسراً ) على حساب جذرية العقائد والأفكار الصهيونية المتحجّرة عبر القرون ! 
ج-في العسكرتاريا الصهيونية: " يجب إجراء مفاوضاتٍ فوريةٍ مع بشّار الأسد ... ويجب إخراج سوريا بسرعةٍ من محور الشرّ .." (صحيفة معاريف الصهيونية بتاريخ 7-05-2010) .
بهذه العبارات الدبلوماسية - والبعيدة عن منابعها المفترضة في ديوان رئاسة وزراء العدوّ, أو في أروقة وزارة خارجيته – إنتهت تقديرات قادة المؤسسات الأمنية في الجيش الصهيوني في مواجهة ما سُمّي بأزمة الصواريخ المنقولة من سوريا إلى حزب الله ... فقد نقلت تلك الصحيفة مؤخّراً أن معظم القادة الأمنيين الصهاينة, ومن بينهم رئيس الموساد "مائير داغان " وغيره من كبار الضبّاط النافذين في الجيش, كانوا قد أوصوا جميعهم المؤسسة السياسية في الكيان , بضرورة فتح باب التفاوض مع سوريا وبشكلٍ سريع ... 
وأشار المصدر نفسه , أن تقديرات ألإستخبارات ترى أن الترابط بين حزب الله وحماس وسوريا يلقي الرّعب على الجوار كلّه.... (إستراتيجية فكّ الروابط الإقليمية), وأن محور "الإعتدال" العربي لم يعد موجوداً ..وأن المحور الجديد الذي سيملأ الفراغ في المنطقة , وخصوصاً بعد انسحاب القوّات الأميريكية من العراق ..هو محور ( الشرّ)!
هذه الدعوات الصهيونية جاءت معاكسة لما هو المنطق الطبيعي في أنظمة الدول .... ففي غالب الأحيان، تأتي اللغة الدبلوماسية الهادئة لتعقلن اللغة العسكرية المتهوّرة !
فبعيد حرب تمّوز، فقدت المؤسسات الصهيونية توازنها ! فقد أضحى العسكر أكثر تعقّلاً ... ورجال السياسة أكثر تهوّراً ...فتارة يهدّد أحدهم في الصباح بالحرب الضروس ... ليعود في المساء متحوّلاً إلى حمامةٍ للسلام في طروحاته ! والشواهد على ذلك لا تُحصى ... ولئن اعتبرها البعض أنها تكتيكٌ صهيونيٌ يخيف (أعداءه ) ويربكهم ... فلربّما كان ذلك صحيحاً في زمن الهزائم العربية ..فكيف إذا أصبحنا اليوم في زمنٍ يرتعد فيه قادة العدوّ من صورةٍ تجمع قادة المقاومة والممانعة ..ومن تصريحٍ مقتضبٍ لوزير الخارجية السورية – الدبلوماسي الهادئ – في معرض تعليقه على التصاريح الحربية لقادة العدوّ ..!! 
هذه الإنقلابات في الأعراف الصهيونية, لا بدّ أن تُشكل المداميك الأولى لضياع القرارات الإستراتيجية "الحكيمة" في الكيان الصهيوني .. والتي بدأت آثارها وتداعياتها تظهر جليّاً داخل المؤسسة العسكرية الصهيونية، والتي بدأت بالتآكل , وبشكلٍ أخاف قادة الكيان أنفسهم ..( أنظر مقالنا على موقع مركز باحث بعنوان: الكيان الصهيوني والتآكل في عاموده الفقري: الجيش ! - بتاريخ 1-02-2010 ) .
ثانياً: التحوّل في الساح العربية والإقليمية: 
أ-سقوط المحاور: نقلت صحيفة "معاريف" الصهيونية بتاريخ 7-05-2010 تصريحاً مقتضباً لرئيس جهاز شعبة الإستخبارات في الجيش الصهيوني، العميد "يوسي بايدس "، يقول فيه: " إن محور الإعتدال في المنطقة لم يعد موجوداً , وإن محور الشرّ هو الذي تقف عنده كلّ الفرقاء ... وهذا كلّه بسبب أن حزب الله في العام 2010 , هو ليس حزب الله نفسه في العام 2006..".
هذا النعي الصهيوني لمحور "الإعتدال" العربي , والذي لم يُكمِل عقده الأوّل بعد , بدأت تباشيره بالظهور بُعيد أحداث الحادي عشر من أيلول في العام 2001 .. ليتمظهر أكثر فأكثر بعد إحتلال العراق في العام 2003 .
والكلّ يذكر عشيّة الثاني عشر من تموز من العام 2006 - في الليلة الأوّلى لأسر الجنديين الصهيونيين في الجنوب اللبناني – ذاك الإعلان المُفرّق والمتزامن الصدور في عواصم "الإعتدال" العربي , والذي تحدّث عن تلك (المغامرة ) وأولئك ( المغامرون ) الذين سيدفعون الثمن ....! إنتهت الحرب , ومرّت السنون , صمد (المغامرون ) ومن ورائهم محور الممانعة ..كابر "المعتدلون" برهة من الزمن .. إلى أن رُمِّلوا بانهزام المشروع الأميركي في المنطقة ...فانفرط عقدهم ...لتبدأ من جديدٍ رحلة تقديم طلبات الإلتحاق بمحور (الشرّ)... وكما وصّف حقاً رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية الصهيونية .
ب-التحوّل العامودي في الموقف التركي: في الثاني والعشرين من ديسمبر/ك1 من العام 2009 , وأثناء زيارته إلى تركيا , وعد إيهود أولمرت – رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق- المسؤولين الأتراك بتجديد التهدئة في قطاع غزة , وحيث كان التفاوض السوري- الصهيوني غير المباشر , يسير على قدمٍ وساق، وبرعايةٍ تركية .. 
بعيد ذلك بأيامٍ قليلة, تنكّرت (إسرائيل ) لوعودها, وشنّت عمليتها العسكرية الوحشية على قطاع غزة ..والتي سُمّيت حينها بعملية الرصاص المصبوب حينها مباشرة إستشاط الأتراك غضباً, متّهمين الصهاينة بخداعهم وعدم الإلتزام بتعهّداتهم .. فوصف رئيس الوزراء التركي في الثامن والعشرين من الشهر نفسه, ذلك الهجوم بأنه " جريمةٌ ضدّ الإنسانية "... ليستقيل بعدها كلّ أعضاء لجنة الصداقة التركية – (الإسرائيلية) في البرلمان التركي من عضوية اللجنة على خلفيّة ذلك العدوان , ولينشئوا مباشرة بدلاً منها لجنة للصداقة التركية – الفلسطينية .. في خطوةٍ ذكّرت بإحلال سفارة فلسطين مكان سفارة (إسرائيل) في طهران عشية انتصار الثورة الإسلامية في أواخر سبعينيّات القرن الماضي ..
إندفع القطار التركي مسرِعاً في ابتعاده عن الكيان الصهيوني , ومقترباً أكثر فأكثر من محور الممانعة والمقاومة ... وذلك في قراءةٍ سياسيةٍ ذكيةٍ لتلك التحوّلات التي عصفت بالكيان بُعيد هزيمته المدوّية في العام 2006 وفي العام 2008 -2009 .... هذا فضلاً عن قراءته الحكيمة لذاك الفراغ الذي سينشأ بعد أن يوارى المشروع الأميركي في الثّرى قريباً – بعد نعيه من قِبل أهله – في المنطقتين العربية والإسلامية, على حدٍ سواء .
فهزيمة "الميركافا" في حرب لبنان الثانية , جعلتها خردة في عيون العسكر الأتراك , بعد أن كانت تُعقد الصفقات الضخمة بشأنها ..إلى ذاك السقوط المريع للهيبة المخادعة للجيش الصهيوني في تلك الحرب ..بعد أن وُهِّمَ الكثيرون , بأنه الجيش الذي لا يُقهر ..فتحولّـت تركيا – آردوغان , من مشاركتها بمناوراتٍ عسكريةٍ أطلسيةٍ بحضورٍ صهيوني ..إلى مناوراتٍ إقليميةٍ مع سوريا , وبختمٍ إيرانيٍ واضح , وبظلال الغاز القطري, في ذاك المحور الخفيّ – المعلن , والذي ضمّ بين جنباته القوميات الثلاث الرئيسية في المنطقة , وهي: الفارسية والتركية والعربية ...إلى الحدّ الذي وصلت فيه العلاقات في ذاك المحور إلى مرحلةٍ تعمل فيها تركيا على نصب صواريخها المضادّة للطائرات على حدودها مع سوريا .. في خطوةٍ فسّرها المراقبون بأنها لصدّ أيّ عملٍ عسكريٍ, قد يُقدم عليه الصهاينة ضدّ إيران أو سوريا عبر الحدود التركة!!.
ثالثاً: التحوّل في الساح ألأميريكية 
أ-في الإستراتيجيا: شكّلت حرب لبنان الثانية , محطّة محورية في اختبار الإستراتيجيات الأميركية للمحافظين الجدد في "الزمن البوشّي", حيث كانت نظرية الفوضى الخلاّقة - التي نادى بها هؤلاء , وسعوا إلى تطبيقها من بداية المحطّة الرئاسية الأولى للرئيس السابق جورج بوش – تترنّح تحت ضربات المقاومة العراقية حيناً , وضربات المقاومة الأفغانية في أحيان أخرى ...
أُطلِقت صفّارة تلك الحرب بتخطيطٍ وتكاملٍ صهيوأميركي , - وقبل أشهرٍ معدودةٍ من نشوبها - حيث رفعت وزيرة الخارجية الأميركية حينها "غونداليزا رايس" شعارها الأساسي البغيض, ألا وهو: قيام الشرق الأوسط الجديد , لتحقيق حلم ربيبها , الرئيس الصهيوني "شيمون بيريز " من جهة , ولتشكّل النتائج المترتّبة والمنتظرة أميركياً لهذه الحرب , رافعة حقيقية أو مدخلاً خلفياً للسّير قُدماً بتلك النظرية المشؤومة في تفتيت المنطقة العربية والإسلامية على حدٍ سواء ..إلاّ أن حسابات الحقل الأميركي لم تتطابق مع حساب البيدر الصهيوني ... فأسقطت نتائج تلك الحرب هذه النظرية المحافظة والمتصهينة على الإقليم العربي والإسلامي معاً... فخلفتها إستراتيجية الديموقراطيين بزعامة أوباما , والمبنيّة – مرغمة أيضاً - على سياسة مدّ اليد الناعمة , والمحمّلة بكثيرٍ من "الجزر السياسي", والقليل القليل من "العصي الغليظة"!!
ولعلّ تداعيات تلك الحرب – المفصلية , لم تنحصر أمريكياً بتغييرٍ في أساليب إستراتيجية السيطرة , إنما تعدّتها إلى تغييرٍ في الإستراتيجية الأميركية في التعاطي مع الملف النووي الإيراني ..فسقوط إستراتيجية 
" دان حالوتس " – الرئيس السابق لأركان الجيش الصهيوني – في القضاء جوّياً على حزب الله وقدراته التسليحية الأساسية , وذلك بالضربة القاضية والمباغتة ... فرمل تلك الإندفاعة الأميركية في التخطيط للقضاء على البرنامج النووي الإيراني , ومن دون حاجةٍ للدخول البرّي للجيوش ألأميريكية في "الوحول" الإيرانية , فيما أُطلِق على تلك الحرب المفترضة إسم " اللسعة " ...!
لم تنجح ( إسرائيل ) في "اختبارها", فعدلت أميركا عن قرارها ... لا بل أضحت (إسرائيل ) اليوم " عبئاً على أميركا ..وأمن جنودها في المنطقة "، على حدّ وصف قائد المنطقة الوسطى للجيوش الأميركية الجنرال " بترايوس " ! فضلاً عن أن هذا الأخير أكّد مؤخراً, وفي حديثٍ تناقلته وسائل الإعلام , بأن أيّة حماقةٍ قد ترتكبها ( إسرائيل ) في الهجوم على إيران , وبشكلٍ منفرد, ستعرّض ألأمن القومي الأميريكي لتداعياتٍ خطيرةٍ جداً...!
إنه التبدّل الإستراتيجي الأميركي- والبراغماتي قهراً- من الهجومي إلى الدفاعي, حيث أصبحت أميركا تتسوّل -سرّاً وعلانية- دول محور ( الشرّ) في تغطية إنسحابٍ مشرّفٍ لها من المنطقة. فضلاً عن أن ما تبقّى من هيبتها الدولية, لم يسعفها لغاية اليوم في إقناع الصين مثلاً في رفع سقف العقوبات المفروضة على إيران , ولو لدرجةٍ واحدةٍ فقط !!.
ب-في المزاج السياسي للشعب الأميركي: 
 حتى وقتٍ ليس ببعيد، كان جلّ ما يدغدغ آلام وآمال الناخب الأميركي, هو كلّ ما يتعلّق بهمومه المباشرة، من ضرائب وتقديماتٍ إجتماعيةٍ وسياسةٍ إقتصاديةٍ داخليةٍ تلامس حياته اليومية ... فكان المرشّحون لسدّة الرئاسة ولعضوية مجلسي النّواب والشيوخ , يجعلون منها شغلهم الشاغل في كيفيّة طرحها وتسويقها في "بازاراتهم" الإنتخابية . 
لا نريد القول هنا أن هذه القضايا باتت في حكم المنسيّة في السياسة الأميركية اليوم. إلاّ أن الجوانب السياسية في شخصية المواطن الأميركي – وخصوصاًً الخارجية منها - , أخذت تُشكّل حيّزاً مهماً في العقل السياسي له.
ولن نغالي كثيراً بالرّبط المباشر بين نتائج تلك الحرب وإعادة تموضع الأولويات في العقل السياسي للمواطن الأميركي .. إلاّ أن القاعدة الرياضية الشهيرة في توازي خطّين متقابلين مع خطٍ ثالث , تدفع بنا إلى نظرةٍ إستيلاديةٍ للأحداث ..
 فلعلّ هزيمة الكيان الصهيوني في حرب العام 2006 , أدّت إلى سقوط رهان المحافظين الجدد على التعويل على نتائجها لجهة صياغة "الشرق الأوسط الجديد", وتعويم نظرية الفوضى الخلاّقة مرّة, ناهيك عن ما سبق هذه المحطّة من سياساتٍ خرقاء للرئيس الأميركي السابق وفريقه المتصهين, في السعي الحثيث لإعمار "البيت الصهيوني" ... حتى ولو كان ذلك على حساب خراب البيت الأميركي ! – والشواهد على ذلك عديدة -. فتوابيت القتلى من جثث الجنود المحمّلين من أرض المعركة في العراق وأفغانستان , كانت أكبر من أن تُدفن في ثرى أمريكا دون تشييع من الأهل و"المحبّين"..!؛ وأنّات الجرحى من أقرانهم , وصلت إلى كلّ بيتٍ كان يظنّ بأنه بمنأىً عن سماعها ...ناهيك عن حالات الإنتحار (ومحاولاته), والتي سرت كالنار في الهشيم في صفوف العسكر المحارب؛ إلى تلك الأزمة المالية التي ما زالت تعصف بالمواطن الأميركي, والذي أدرك أنه دفع الثمن مرّتين؛ مرّة عند ثراء رأسماليّيه وشركاته الكبرى - والمرتبطة بشكلٍ مباشرٍ ووثيقٍ باللوبي الصهيوني - على حسابه. ومرّة أخرى عندما طُلِب منه المشاركة في تحمّل أثمان المعالجات, ليتكبّد مزيداً من الضرائب, كسبيلٍ لحلّ ألأزمة على حسابه، وذلك وفقاً لمبدأ التضامن الوطني !!. 
تساؤلاتٌ عديدةٌ فرضت نفسها مجدداً على ذهن المواطن الأميركي: - لماذا يكرهنا الآخرون؟ لماذا تنامي العداء لأمريكا في العالم , وخصوصاً لدى شعوب الثالث ؟ لماذا فشلت كلّ محاولات تفعيل الأجهزة التي تعمل على تلميع صورة أمريكا في العالم, والذي قدم العديد من أفرادها إستقالاتهم في منتصف الطريق؟
-إلى أيّ مدىً حققت إستراتيجية بوش الأمنية الأمن للأمريكيين، والقائمة على مبدأ الفوضى الخلاّقة , وذلك كرمى لعيون الصهيونية , وتشتيت الإرهاب في أكثر من دولةٍ في العالم ؟ وكيف انعكس ذلك، ليس فقط على عدم المقدرة على القضاء على "رأس" الإرهاب؛ إنما ساعد نهج بوش الانتحاري على تفريخ "إرهابيات" صغيرة ملحقة في أكثر من منطقة ... إلى ان انتهت تلك الإستراتيجية في طلب فتح باب التفاوض مع الحاضن الأوّل للقاعدة الأم في العالم؛ عنيت بها حركة طالبان الأفغانية !!
-كيف نجحت دول محور (الشرّ) في فكّ عزلتها ؟ لا بل في البدء بتحقيق مكاسبها الحالية. فكوريا الشمالية رُفعت من تلك اللائحة السوداء , وبدأ عهدٌ جديدٌ معها ... وإيران التي تخطّت -ولو مرحلياً - أيّ عملٍ عسكريٍ ضدّها , وذلك ببعض عقوباتٍ أمميةٍ ضعيفة؛ بل هي فقط لحفظ ماء الوجه الأميركي من جهة؛ ولدفع إيران إلى التفاوض وبشروطٍ مخفّفة من جهةٍ ثانية ... إلى سوريا التي عادت من جديد لتكون محطّ أنظار دولٍ أوروبيةٍ وإقليميةٍ لها ثقلها , في مشاركتها من بمحاولات إدارة أزمات المنطقة أو حلّها!!.
-كيف أصبحت دول أمريكا اللاتينية , دولاً مقفلة على الولايات المتحدة , تُجاهر في عدائها لها , وهي رابضةٌ على خاصرتها ؟ 
-كيف أضحت الصين، الخصم الإقتصادي اللدود لأمريكا، محلّ استرضاء هذه الأخيرة , وذلك بُعيد نشوء الأزمة المالية ...وذلك في دعم أمريكا للبنوك التي تحوي رؤوساً لأموالٍ صينيةٍ حصراً , آملةً في طلب الإستدانة منها لاحقاً !!.
-كيف عادت روسيا وأوروبا لتلعبا أدواراً اساسية في الأزمات والمشاكل العالمية, بعد أن مكثتا لفترةٍ لا بأس بها من الزمن , كملحقتين على هامش السياسة الأميركية؟
أسئلةٌ طالت وتساؤلاتٌ جالت , فارضة نفسها لاعباً إنتخابيا مستحدثاً عند مختلف فئات الشعب الأمريكي، , حيث شكّلت لاحقاً نوعاً من الإنتفاضة داخل العقل السياسي الأميركي ....والتي كانت أولى تجلّياتها وصول باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة في البيت الأبيض, آملين عبره بحدوث التغيير المنشود, تحقيقاً لوعوده الكثيرة للأميركيين ....
يسرد د. رياض طبّارة ( السفير اللبناني السابق في واشنطن ) في ندوةٍ نظّمها مركز باحث للدراسات بتاريخ 22-04-2010 - والتي جاءت تحت عنوان: اللوبي الصهيوني في أمريكا: إلى أين ؟ - أن هناك ظاهرة مستحدثة في أمريكا، ومنذ ما بعد فشل المشروعين الأميركيين في لبنان – بالحرب الصهيونية عليه – وفي المنطقة العربية - بنشر الفوضى الخلاّقة - , وهي ظاهرة الغزارة في الإنتقادات الأميركية – غير اليهودية – ( لإسرائيل ) , عبر الصحف ومختلف وسائل الإعلام الأميركية , حيث ظلّ هذا الأمر, ولعقودٍ خلت، من الكبائر أو المحرّمات الممنوعة من الصرف على الساحة الأميركية!!.
رابعاً: التحوّل المنطقي في الساحات الأخرى:
أ-أوروبياً: ظلّت أوروبا بمعظم دولها , ولفترةٍ تلت الأحادية القطبية في العالم من أوائل تسعينيات القرن الماضي , صدىً للصوت الأميركي .. ولكن، مع بداية خفوت هذا الصوت في منتصف العقد الحالي من الزمن , بدأ هذا الصدى يتلاشى رويداً رويداً ..فمنذ الإنتخابات النيابية في لبنان في العام 2005 , وما أفرزته صناديق الإقتراع من نتائج مبهرةٍ للعالم في حجم التأييد الشعبي لخيار المقاومة في لبنان .. حيث بدأ حينها المزاج الأوروبي يقاوم الضغوط الأمريكية المنادية بوضع حزب الله على اللوائح الأوروبية (للإرهاب) , وذلك على غرار اللائحة ألأميريكية السوداء ....هذه "المقاومة" الأوروبية للضغوط الأميركية تعزّزت أكثر فأكثر .. فمع توقّف الاعتداءات العسكرية الصهيونية على لبنان في حرب العام 2006 , ونتيجة للخيبة الصهيو-أمريكية التي تمخضت عنها تلك الحرب, وحيث أن الأوروبيين كانوا مع بداية الحرب , داعمين لها , وذلك بفعل التضليل الأميركي –الصهيوني لهم , حول قدرات الجيش الصهيوني الحقيقية حينها... وبعد ذوبان الثلج الصهيوني على جبال وسهول لبنان المقاومة , أعاد الكثير من هؤلاء حساباتهم السياسية ... فهم من جهة لا يمكنهم أن يبقوا ملكيين أكثر من الملك , ولا التطوّرات الحاصلة بعد تلك الحرب تسمح لهم بالمكوث طويلاً في المربّع الأول .. فالسياسة هي براغماتية , متحرّكة , وليست جامدة .... 
 ولعلّ القرار 1701، الصّادر عن مجلس الأمن , والذي قضى في بعض فقراته بنشر اليونيفيل المعزّزة في جنوب الليطاني في لبنان , و بعديدٍ ناهز 15000 جندي أممي , جلّهم من الأوروبيين , والذين كانت دولهم قد شكّلت المانع المبدئي في الإستجابة للرغبات الصهيو-أميركية في إدراج حزب الله على لوائح الإرهاب الأوروبية ... فأتت هذه الفقرة مُحصّنة أكثرفاكثر لهكذا موقف... فالكل يذكر تلك التطمينات التي طلبتها دولهم من حزب الله , وتحديداً قبيل إيفاد الجندي ألأول من هذه القوات!, فهل يطلب ألأوروبيون ألأمن وألأمان لجنودهم من (الإرهابيين) هذا مُحالٌ بالتأكيد ...! 
منذ ذلك الحين , بدأنا نلمس التحوّلات الأوروبية في التعاطي مع حزب الله. والشواهد المعلنة على ذلك كثيرة .. من دعوة حزب الله إلى مؤتمر سان-كلو في فرنسا إبّان الأزمة الداخلية في لبنان في العام 2008 ... إلى الإنفتاح البريطاني على ما سمّوه (الجناح السياسي في حزب الله) ...إلى التحوّلات المزاجية الشعبية في أوروبا حول ممارسات الكيان الصهيوني ... والتي تكرّست مع صدور تقرير غولدستون الشهير حول الهجمات الصهيونية الوحشية على قطاع غزة في نهاية العام 2008 وبداية العام 2009 .
ب-روسياً: كان لا بدّ لهذه الإنكفاءة الأميركية, أن يليها مباشرة وبشكلٍ منطقي , عودة للمظلّة الروسية مجدّداً , لِتُفيّئ (ولو نسبياً) محور المقاومة والممانعة الصاعد في المنطقة .. وذلك من خلال صفقات السلاح الأخيرة مع سوريا, ... مع العلم أن كلّ التحوّلات السالفة الذكر, حدثت في مرحلة روسيا بوتين – مدفيديف , والتي تتبع سياسة فعّالة في المهادنة والممانعة في آنٍ واحد. والسؤال هنا: هنا هل كان هذا التطوّر المستجدّ على الموقف الروسي , سيحدث لو أن الإستراتيجية الصهيونية العسكرية تغلّبت في حربها تلك على عنصر الإشتباك الرئيسي في محور الممانعة والمقاومة؛ ألا وهو: حزب الله ...؟؟؟ بالتأكيد , الإجابة هي بالنفي .
هذه التحوّلات والتبدّلات الطارئة في الخارطة السياسية الكونية .. لا بدّ لها أن تكوّن اللبنات الأولى لخارطةٍ جيو-استراتيجية عالميةٍ أكثر واقعية .... حيث ستتحكّم تلك الواقعية بمسار السياسات الكبرى المستقبلية, والتي ستترك آثاراً واضحة لناحية تغييرالوجه السياسي العام لمنطقة الشرق الأوسط برمّتها .

2010-06-11