ارشيف من :آراء وتحليلات

برغم اشتداد الأزمة.. "اسرائيل" غير معنية بخسارة تركيا

برغم اشتداد الأزمة.. "اسرائيل" غير معنية بخسارة تركيا
حسان ابراهيم

لا ترتبط أزمة "اسرائيل" مع تركيا، بحادثة سفينة مرمرة وسقوط الشهداء الاتراك التسعة على متنها، جراء الجريمة الاسرائيلية الاخيرة على أسطول الحرية. تأتي هذه الجريمة لتظهر، كمناسبة، جدية التوجهات التركية حيال "اسرائيل"، وضمن سلسلة خطوات تصعيدية تركية سابقة مرتبطة بسياقات سياسية وغير سياسية شهدتها العلاقات التركية الاسرائيلية في السنوات القليلة الماضية، بما يبدو انه مقاربة تركية جديدة للمنطقة ومن بينها " اسرائيل"، حيث ترى انقرة ان الظروف القائمة حاليا في الشرق الاوسط، وسط التراجع الاميركي وبروز دور الممانعة فيها، يتيح لها ان تلعب دورا مركزيا في ظل تقلص للوزن العربي، الى درجة تقارب شبه غياب للوزن بالاساس.

بدأت انقرة انعطافتها تجاه اهم مسألة في الشرق الاوسط واكثرها تعقيدا، اي القضية الفلسطينية، منذ سنوات قليلة، باعتبارها لب واساس مشاكل المنطقة، وقد تمظهرت جيدا في مؤتمر دافوس الاخير عام 2009، بين رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان والرئيس الاسرائيلي شمعون بيريز، وما دار بينهما من سجال افضى الى اهانة بيريز، والموقف التركي من العدوان على قطاع غزة، الذي كان غير متساوق مع غالبية الموقف العربي، حيث فضلت "دول الاعتدال العربية" مجاراة اسرائيل على حساب الفلسطينيين، كما بانت الانعاطفة التركية جيدا في الاتفاق الثلاثي مع البرازيل وايران، بما خص المشروع النووي الايراني، واخيرا ما اعقب مجزرة سفينة مرمرة من مواقف تصعيدية تركية لافتة.

في هذا الاطار، يمكن القول ان حادثة مرمرة جاءت متساوقة مع "الانعطافة" التركية، ومناسبة لاظهارها، لكن في نفس الوقت، وبرغم كل ما ظهر من حدية وتشدد تركيين حيال اسرائيل، وهي نتيجة منطقية لمجزرة سفينة مرمرة، الا ان الانعطافة ما زالت مدروسة جيدا وتخطو خطواتها بشكل تدرجي، الامر الذي يدفع انقرة الى المحافظة على حد ادنى من العلاقات مع "اسرائيل"، وفي نفس الوقت تصعيد مدروس في اتجاهها.

في هذا الاطار، يشار الى عملية تراكم لمواقف وانتقادات حكومة انقرة حيال "اسرائيل"، لكنها مواقف لا تصل الى حدود لا رجعة فيها: تخفيض العلاقات الامنية الى حد ادنى من دون الغائها بالكامل؛ الغاء مناورات مقررة في السابق دون الغاء اصل التعاون العسكري؛ التهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية او تجميدها، لكن من ناحية عملية تقتصر المسائل الى الان على حدود قابلة للتراجع عنها، فلا قطع للعلاقات الدبلوماسية، لكن تهديد بقطعها مع استدعاء للسفير التركي، وغيرها من المسائل..

بموازاة ذلك، يبدو ان "اسرائيل" معنية بالفعل بعدم التسبب بمزيد من تردي العلاقات مع تركيا، او التسبب بما من شأنه ان يدفع انقرة الى خطوات حادة تكسر هذه العلاقات دون رجعة فيها. نلاحظ في هذا الاطار مقاربة حذرة جدا من قبل المسؤولين الاسرائيليين، سواء من حيث المواقف والتصريحات، الذين يفضلون اطلاق ردود فعل تحاول الابقاء على ما يمكن ابقاؤه من العلاقات وعدم جر الاتراك الى حراك يضر بالمستوى الاستراتيجي فيها، بل يقتصر فقط على المستوى التكتيكي للعلاقات القائمة بين الجانبين.

يصعب في هذا المجال ان نجد تصريحا او موقفا لمسؤول اسرائيلي رسمي، من شأنه ان يذكي المواجهة القائمة.. بل ان تصريحات وزير الخارجية الاسرائيلي، افيغدور ليبرمان، ما زال الى الان، وبرغم وصفه بصاحب التصريحات والمواقف المتطرفة، فانه يقارب الازمة مع انقرة بحذر شديد، وكل ما تحدث عنه جاء في اطار توصيف للاوضاع دون الادلاء بما يزيد من تعقيداتها.

ويبدو ان تل ابيب تخشى بالفعل ان تقدم على خطوات او مواقف تدفع انقرة بشكل نهائي الى المحور الايراني السوري، وهي على استعداد لدفع كل الاثمان الممكنة للحيلولة دون ذلك، ففقدان تركيا كحليف استراتيجي ضد هذا المحور، لا يعني تحويله ودفعه الى المحور المعادي ذاته، وهذا ما تسعى اليه تل ابيب في ظل الازمة: عملية احتواء ومنع مزيد من التداعيات السلبية، وعدم التسبب بخسارة تركيا، التي تعتبر اهم واكبر دول المنطقة.

افضل ما قيل في هذا الاطار جاء على لسان وزيرة الخارجية الاسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، التي شددت على ان "تركيا تجلس على الجدار، وعليها ان تختار الى اي معسكر تنتمي"، اي انها ترى كل ما اقدمت عليه تركيا لا يشير الى انها اختارت المحور الاخر، بل ما زالت في وسط الطريق المؤدي اليه، وبمعنى اخر ما زالت الطريق معبدة جيدا للعودة الى المحور الاسرائيلي.

ما زالت "اسرائيل"، برغم كل المواقف التركية، تتطلع الى تصويب المسائل مع تركيا، وكلما اندفعت او انزاحت انقرة نحو المحور المعادي لتل ابيب، شعرت الاخيرة بسخونة الخطر، الامر الذي يدفعها اكثر الى مجاراة وتهدئة تركيا املا في العودة الى موقعها السابق.. لكن، وعلى اي حال، لحماقة الحكومة الاسرائيلية الحالية دور في هذا الشأن، ولا يمكن اغفاله عن اصل التقدير، ولعل ما اقدمت عليه اخيرا على متن سفينة مرمرة مبرر لقول ذلك.. فإن كانت "اسرائيل" غير معنية بتردي العلاقات مع تركيا، الا ان مواقفها تؤدي اليها، ومن هنا يأتي توصيف المحللين الاسرائيليين، وفي اغلبيتهم الساحقة: فشل وحماقة حكومة نتنياهو في معالجة المشاكل مع تركيا وغيرها، التي تزيد منها وتراكم عليها بدلا من حلها.
2010-06-12