ارشيف من :آراء وتحليلات
لماذا جعجع في مصر؟
هيلدا المعدراني
عند العرب مثل قديم يقول "لأمر ما جدع قصير أنفه"، وهي تستخدمه عندما تتوجس من شخص أقدم على فعل معين. واللبنانيون اليوم، وهم يرون بلدهم يتأرجح على كف عفاريت المصالح الدولية والمناحرات الإقليمية، يجوز لهم القول "لأمر ما ذهب سمير جعجع إلى مصر"، لأن توقيت الزيارة وما أحاطها من حفاوة مصرية (تزيد برتوكوليا بأضعاف عن قيمة الزائر ووزنه الرسمي) تستدعيان مثل هذا التوجس والتساؤل عن الدوافع الحقيقية لهذا التكريم وكيفية تسديد أثمانه لبنانيا.
ليس تحاملا على جعجع القول، إنه لا حيثية سياسية أو فكرية أو اجتماعية أوبروتوكولية لديه، تجعل الرئيس المصري حسني مبارك يرتضي إنفاق أكثر من ساعة على مجالسته، أو أن يطلب من وزير خارجيته أحمد أبو الغيط أن يحادثه لأكثر من ساعتين، والإجازة للقوات اللبنانية بإصدار بيان يفصل بعض ما دار بين "الجانبين".
كذلك ليس تحاملا على جعجع القول، إن ماضيه يثقل بشدة على مضيفه خصوصا في مثل هذا الشهر (حزيران)، وهو الشهر الذي تحل به ذكرى مأساتين دمويتين تحوم شبهات كبيرة حول دور جعجع في ارتكابهما واتخاذهما الرافعة الحاسمة لصعوده على المسرح السياسي، وهما ذكرى اغتيال الشهيد رشيد كرامي ومجزرة إهدن التي ذهب ضحيتها الشهيد طوني فرنجية وزوجته وطفلته وعدد من أبناء بلدته، والرئيس المصري يعلم أن ضيفه اللبناني قد أدانه القضاء المحلي بأكثر من جريمة مروعة، وتم إخراجه من السجن بعفو صدر تحت وطأة الظروف الانقلابية التي مر بها لبنان إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لا أحد يصدق، بأن الرئيس المصري استقبل جعجع ليبحث معه المصالحة الفلسطينية ـ الفلسطينية، أو كيفية تنشيط عملية التسوية بين رام الله وتل أبيب، أو الإطلاع على تقويمه لأوضاع المنطقة على ضوء قرار مجلس الأمن 1929 الأخير والقاضي بفرض عقوبات على إيران، أو للاستئناس برأيه في فهم التحولات التي تضرب العلاقات بين القوى الإقليمية الرئيسية ومنها التركية ـ الإسرائيلية.
طبعا، المصريون كما لم يأخذوا بتشبيه جورج بوش لجعجع بالأيقونة، لم يأخذوا على محمل الجد أيضا شهادة عمرو موسى به على انه زعيم ومفكر، فهم قد خبروا "نبوءاته" من المهلة التي أعطاها للرئيس إميل لحود لمغادرة قصر بعبدا ناكثا بتعهده امام الألوف من جمهور 14 آذار، كما خبروه من المواعيد التي ضربها عشية الانتخابات النيابية السابقة لتعليق المشانق لمن كان يتهمهم بجريمة اغتيال الحريري، ولا يخفى عليهم بأنه عندما يجزم بضربة أميركية قريبة لإيران تجاوزت الأربع سنوات فقط، أنه يسقط تمنياته على تحليلاته.
من الواضح أن جعجع قصد القاهرة بعدما شعر بعجزه عن اللحاق بالتطورات التي تموج بها المنطقة وبدأت تغمر مفاعيلها الساحة اللبنانية بشكل يهدد بغرق كل الطروحات التي يتمسك بها
|
وإن كانت الأسباب الحقيقية لذهاب جعجع لم تتضح بعد، إلا أن توقيتها يفضح مضمونها، وواضح أن رئيس القوات قصد القاهرة بعدما شعر بعجزه عن اللحاق بالتطورات التي تموج بها المنطقة وبدأت تغمر مفاعيلها الساحة اللبنانية بشكل يهدد بغرق كل الطروحات التي يتمسك بها، وخصوصا استهدافه لسلاح المقاومة وترهيبه اللبنانيين من حرب إسرائيلية في إطار محاولاته الدائمة إضعاف الرسائل الردعية التي يوجهها السيد حسن نصرالله للداخل الإسرائيلي لثني جيش العدو عن القيام بأي مغامرة حربية.
لقد ذهب جعجع إلى مصر شاكيا عدم قدرته على المضي باللعبة المكلف بها، وما يشكوه في مصر، سبق أن قام بتظهيره في لبنان باعتراضه على سياسة التقارب التي يقودها الرئيس سعد الحريري مع سوريا وموقف الأخير المتمايز عنه حيال سلاح المقاومة والتهديدات الإسرائيلية، وكان آخر تعبيرات هذا الاعتراض ما جرى بين القوات وتيار المستقبل من كباش حول انتخاب نقيب الأطباء.
أضف إلى هذا، حرده من المنهجية التي يعتمدها الرئيس ميشال سليمان في إدارة الحوار الوطني حول الاستراتيجية الدفاعية، والتي تضع سلاح المقاومة خارج النقاش، وهو الحرد الذي ذهب به إلى حد اتهام الرئيس بالخروج على البيان الوزاري ونزع الصفة التوافقية عنه.
وإلى ذلك، محاولة اتخاذه دور الضحية، وتصوير قواته على انها مستهدفة وهناك نية لاستفراده وتقديمه قربانا على مذبح التفاهم السوري السعودي في لبنان، خصوصا عندما وجد أن هذا التفاهم لا يمنع مساءلة فؤاد السنيورة عن صرف 11 مليار دولار خلافا للأحكام الدستورية والقانونية.
هل تستطيع القيادة المصرية مساعدة جعجع وإخراجه من مأزقه، أم يكتفي بالتظاهرة الإعلامية التي وفرتها له هذه القيادة، ومنها صورته مع مبارك وشهادة عمرو موسى الذي اقتنع بعد أربع سنوات من تجويع أهل غزة بضرورة كسر الحصار المزدوج عنها.