ارشيف من :آراء وتحليلات
أفغانستان... زمن الهلوسة الأميركية!
عقيل الشيخ حسين
أعراض اضطرابات عقلية ونفسية من أنواع غير معروفة بدأت بالظهور في سلوكات القوات الأميركية والأطلسية التي تحتل أفغانستان، بما فيها سلوكاتهم اللغوية، على مستوى التصريحات والتحليلات والتوقعات، تصاحبها هلوسات شبيهة بحلوم الأطفال حيناً، وبما يبدر عمن يردون إلى أرذل العمر حيناً آخر. وبين هذه وتلك تصورات تشفي صدر الغليل وتفعم بالأسى قلب المحب.
المؤشرات والأمثلة لا تعد ولا تحصى. فبعد نكول الحلفاء عن المشاركة في المجهود العسكري، وعزم العديد منهم على الانسحاب من أتون الحرب، قضت استراتيجيات أوباما بإرسال عشرات الألوف من الجنود الأميركيين سريعاً إلى أفغانستان، بهدف معلن هو تحقيق النصر الذي عجز عن تحقيقه سلفه بوش.
ثم شنت القوات المتحالفة هجومها "الكبير" على هلمند. وفي الوقت الذي يفترض فيه أن الهجوم الذي استمر شهوراً قد حقق أهدافه ونظف المنطقة من مسلحي طالبان، لا تزال الأخبار تتحدث عن سقوط المزيد والمزيد من جنود قوات التحالف قتلى وجرحى تحت ضربات المقاومة. آخرهم أربعة جنود أميركيين قتلوا بعد أن أسقطت مروحيتهم في هلمند.
أما الهجوم الحالي الذي بدأ قبل اسابيع بهدف تطهير مقاطعة قندهار، فقد تبين، وفقاً لما صرح به قائد القوات الأميركية التابعة للحلف الأطلسي، الجنرال ستانلي ماكريستال، أنه سيمضي، شأن الهجوم على هلمند، في إيقاع أبطأ من المخطط الذي وضع في الأصل والمفترض به أن يستمر شهوراً.
وكلام أوباما عن الأيام "العصيبة" القادمة، وعن المقاومة "الذكية" التي تواجه قوات التحالف، مضافاً إلى دعوة وزير دفاعه، روبرت غيتس، إلى ضرورة التحلي بالصبر قبل الحكم على الاستراتيجية الجديدة لمكافحة حركة التمرد، يمكن أن يفسر بأن البطء في تقدم الهجوم مفتوح على المزيد من البطء، والشهور مفتوحة على السنوات.
وفي حين تباهى ماكريستال عندما قال، على هامش اجتماع لوزراء دفاع الحلف الأطلسي استغرق يومين في بروكسيل لبحث الوضع في أفغانستان بأن قدرات الحلف "ازدادت ثلاثة أضعاف مقارنة بالعام الماضي"، جاءت الوقائع لتؤكد أن العام 2009 كان الأكثر دموية على الاحتلال الذي فقد 520 جندياً، وأن العام 2010 يحذو حذو سابقه، حيث بلغ عدد القتلى 247 جندياً خلال الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام.
والعجيب أن المتحدث باسم البنتاغون، برايان ويتمان، يعزو ارتفاع نسبة الخسائر البشرية في صفوف قوات الاحتلال إلى ارتفاع عدد الجنود الأجانب المنتشرين في أفغانستان، وإلى مستوى النشاط المرتفع لهذه القوات. والأعجب أن هذه "الارتفاعات" لا يقابلها غير المزيد من البطء في التقدم نحو الانتصارات. والمزيد من البحث عن الذرائع التي تفسر الهزائم. فقد عاد تقرير بريطاني صدر مؤخراً إلى اجترار مقولة الدعم الذي تقدمه الاستخبارات الباكستانية إلى مقاتلي طالبان. وقبلها، عزا الأميركيون تضعضع وضعهم إلى دعم تحصل عليه المقاومة الأفغانية من قبل إيران. وقبلها وبعدها، تحدثوا عن تواطؤات بين قرضاي وطالبان وباكستان.
وأمام الواقع المر، تفتقت قرائح الأطلسيين عما هب ودب من النظريات "الموثوقة" لجهة ناجعيتها في إحراز النصر. تجنيد جيوش جرارة تضم مئات الألوف من الفقراء الأفغان بتكلفة لا تزيد عن تكلفة طائرة مقاتلة واحدة. أو قصر الحرب على الاكتفاء بالقصف بطائرات بدون طيار أو بصواريخ بعيدة المدى، لتجنب مشاهد الجنود العائدين إلى بلادهم في التوابيت. أو استمالة قطاعات من طالبان عبر التلويح لهم بحصة في الحكم. أو تنفيذ برامج تنمية مكثفة في مدن وقرى تقام فيها حكومات محلية بعد تنظيفها من قوى المقاومة، على أمل صرف الناس عن القتال عبر تحسين وضعهم الاقتصادي. وقد أجريت تجربة من هذا النوع في مدينة مرجة في هلمند لكنها أفضت إلى فشل مدو، حيث لم تقم حكومة فعالة، ولم تصل المساعدات التنموية الموعودة، ولم يمنع ذلك من توسع نشاط طالبان.
آخر الابتكارات، ما نشرته نيويورك تايمز قبل يومين عن اكتشاف ثروات معدنية هائلة في أفغانستان تقدر قيمتها بترليون دولار. حديد، نحاس، كوبالت، ذهب، وليتيوم وما إلى ذلك من معادن نفيسة تدخل في صناعة الالكترونيات والحواسيب والهواتف النقالة... وتبشر بتحول أفغانستان من بلد فقير إلى بلد بمستوى السعودية الغنية بمواردها النفطية.
ابتكار مستوحى، بلا شك، في زمن الشيخوخة وما يصاحبها من أحلام الرجوع إلى الصبا، من زمن الفتوة الأميركي ... زمن الهروع الكبير إلى الذهب الذي لعب دوراً بارزاً في ولادة الولايات المتحدة وتحولها قبل قرنين من الزمن إلى مقصد لكل باحث عن الثروة، وبالتالي إلى أقوى قوة في العالم.
حلم بأن يخفف الحلم بتحصيل الثروة من سخط الشارع الأميركي بسبب الإنفاق المرهق، في زمن الأزمة المالية، على حرب ميؤوس منها. وبأن يغذي عند الشعب الأفغاني وهماً يصرفه عن مواصلة الجهاد حتى النصر.
إذ حتى لو صح وجود تلك الثروة التريليونية، فكم من الوقت سيلزم للبدء باستغلالها؟ وكم ستكون حصة هذا الشعب منها، في ظل الرأسمالية الأميركية المتوحشة، وخصوصاً في ظل وحشتها إلى جني الأرباح بعد أن غرقت حتى رأسها في معمعان الخسائر؟