ارشيف من : 2005-2008
مفاجأة المعارضة الوطنية: حشود مليونية على أبواب السراي الحكومي
الأول من كانون الأول لم يعد يوماً عادياً في تاريخ لبنان الذي يعمل أبناؤه على صناعة وجهه الحقيقي: السيد الحرّ والمستقل، وبالطبع لم يكن يوماً للنزهة بالنسبة للفريق الحاكم الذي استفاق على نهر هادر من البشر يحيط بحصنه المسوّر بالأسلاك الشائكة، ويطالبه بالرحيل اليوم قبل الغد.
.. الساعة الثالثة من عصر الجمعة، أو قبل ذلك بساعات هي بداية التحول الحقيقي، حشود بشرية من كل لبنان تجمعت في بيروت لتغرق ساحتيها الاساسيتين في رياض الصلح والشهداء ومعظم الشوارع المؤدية الى هناك بسيل بشري هادر هتف بصوت واحد "فلتسقط الحكومة"، إنها "ساعة الصفر" التي انتظرها اللبنانيون حتى انقطاع النفس من التحاور الى التشاور الى رحلة المبادرات في الأيام الأخيرة، حتى حانت اللحظة التي لطالما أنذرت المعارضة الوطنية قوى السلطة من حجمها، اللحظة الحاسمة والمفاجئة، التي وإن حسبَ الفريق الحاكم حسابها لأنه يعرف مدى الحضور الشعبي للمعارضة، إلا أنها فاقت كل التوقعات، فاجتاحت حشود اللبنانيين من كل المناطق قلب بيروت في تجمع تاريخي لم يسبق أن شهد لبنان مثيلاً له.
وفي ظل العلم الوطني، وقف اللبنانيون مسلمين ومسيحيين، ومن مختلف المشارب والهيئات السياسية والحزبية والاجتماعية ليقولوا: لا لهذه السلطة المستبدة، لا للاستئثار، لا للهيمنة، نعم مدوية للشراكة ولحكومة الوحدة الوطنية.
وعلى قدر الأهمية السياسية لحشد المعارضة، فإن التنظيم الدقيق الذي تميز به التجمع، والانضباطية العالية للمشاركين، والذي خيب آمال قادة الفريق الحاكم، شكلّ نقاطاً اضافية في مصلحة المعارضة، كما ان اطلاق الاعتصام المفتوح بعد التجمع الشعبي مباشرة وحجم المشاركة فيه، كان المفاجأة الثانية التي عبرت عن مدى الاندفاع الشعبي وتوقه للتغيير.
كلمة المعارضة الوطنية اللبنانية ألقاها رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون فدعا الحكومة الى الاستقالة، مؤكداً أن من "كان شعبه معه لا يحتاج إلى شريط شائك"، وشدد على أن "ليس هناك مذهبية في معالجة الشؤون العامة، وليس هناك صفة لرئيس الحكومة غير كونه لبنانياً ولجميع اللبنانيين. واذ ننتقده اليوم، لا نوجه نقدنا كما شاء البعض الى الطائفة السنية، بل الى رئيس الحكومة اللبنانية الذي بأدائه أخطأ كثيراً".
هنا وقائع اليوم الاول (الجمعة) من التحرك الشعبي للمعارضة اللبنانية:
العاصمة التي اتسع قلبها للجميع، غدت مليئة بناسها وبالباصات وبالسيارات التي أقلتهم من أقاصي الشمال والجنوب والبقاع والجبل، الجميع هنا يهتف، يرفع الرايات والأعلام اللبنانية واللافتات التي توحدت حول كلمة واحدة "نحن نريد حكومة نظيفة"، مترافقة برديات وهتافات أجمعت على أن رئيس الحكومة يغتصب السلطة من دون أي وجه حق.
كيفما نظرت يخال إليك أنك في عرس وطني، فالأيادي تشابكت، والحناجر صدحت، والكل هنا من أطفال وشباب وشيب ونساء ينظرون إلى غد أفضل، ويمشون جماعات جماعات وفي قلبهم الوطن الواحد.
وفي جو اتسم بالهدوء والانضباط والطابع السلمي والحماسة، ووسط إجراءات أمنية مشددة اتخذها الجيش اللبناني والقوى الأمنية وعناصر الانضباط على الطرقات المؤدية إلى مكان التجمع، كانت ساحة رياض الصلح تموج بالوافدين وبالأعلام اللبنانية التي رفرفت فوق الرؤوس، وبمقتطفات من خطب قادة المعارضة.
وألقى رئيس كتلة "التغيير والإصلاح" النائب العماد ميشال عون، من خلف ستار زجاجي واق يحيط به المعاون السياسي للامين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل والنائب علي حسن خليل، كلمة المعارضة الوطنية اللبنانية، وجاء فيها "جئت اليوم لأخاطبكم بما تستحقون دائما: يا شعب لبنان العظيم".
أضاف: "هذه اللحظات التاريخية بجو مفعم بالأمل وليس بالقلق وضميرنا مرتاح لخياراتنا الوطنية، ونحن نسعى لتحقيقها بما يضمن سلامة وسيادة واستقلال هذا الوطن".
وقال: "اليوم نجسد معاً المفاهيم الوطنية والاخلاقية التي لم تعد شعارا مزيفا كلاميا بل أصبحت واقعا معيشاً في قلب كل بيت وقلب كل إنسان. نحن اليوم نحيي العيش المشترك ونحصن وحدتنا الوطنية ليس بالكلام، وقد أصبحت طريقة الحياة نسلكها بكل طمأنينة نحو المستقبل، وان قيمنا لا ترتكز على خطاب سياسي، ربما كثيرون يحسنون الخطاب أكثر منا، ولكننا بالواقع نحسن الالتزام أكثر من أي فريق آخر بما نتعهد به أمام مواطنينا".
وتابع "نحن اليوم لسنا على مفترق طرق كما يدّعون، إنما على طريق قويم نمشي عليه ونترك القلق وراءنا، وكذلك الشائعات. وإذ أحيي الحضور، أحيي أيضا الغائبين عن هذا الاجتماع، وكم كان يفرحنا أن تكون هذه السراي حاضرة بوزرائها معنا اليوم. نحن لا نسعى إلى عزلهم ولا إلى الاستئثار بالسلطة، ولا نسعى إلى الحصول على مصالح فردية او حتى فئوية، بل نسعى اليوم إلى تركيز الوطن على دعائمه الأساسية التي من دونها لا يحيا وطن. ولكن لدينا من العزم والصبر والحكمة بأن نسعى دائما إلى عودة الابن الضال إلى هذا الشعب المحب الذي يسعى إلى ضم كل بنيه".
وأردف عون "بالرغم من تنبهنا إلى هذه المخاطر التي أعتبرها آنية، نشكر محطات التلفزة التي تسعى حتى في مثل هذه اللقاءات الوطنية تحت العلم اللبناني، أن يكون لديها عدّادات طائفية فتحصي آلافاً من المسيحيين ومئات آلاف من المسلمين.. عيب وعار عليكم اليوم أن تميزوا بين مذهب وآخر، وبين طائفة وأخرى، وقد اجتمعنا يظللنا العلم اللبناني، ونحن فخورون أمام العالم اجمع ولا نخجل من شعاراتنا الوطنية. نعم نحن متطرفون في المحافظة على السيادة والاستقلال وعلى القرار الحر، القرار الحر في عيش حياة الاعتدال، وهو في العيش المشترك وليس الاعتدال في التنازل عن الحق في السيادة والاستقلال، وليس الاعتدال في التفتيش عن قرار ضائع في العواصم القريبة والبعيدة، القرار الحر هو في ما نسعى الى تحريره اليوم. هذا القرار بتوافقنا حول سياساتنا الداخلية والخارجية والدفاعية، نصنع قرارنا الحر".
وقال "القرار الحر لا يتغير جغرافيا من منطقة لبنانية إلى منطقة غير لبنانية إذا ما حل فيها غريب أو أجنبي. سنسعى دائما إلى المحافظة على صداقاتنا، ونريد أن نكون أصدقاء الجميع في الشرق والغرب على أن يتركونا وشأننا في معالجة مشاكلنا. وإننا نعتبر أي دعم فئوي للحكومة من أي دولة أتى ليس دعما صديقا، إنما هو دعم لخلق التصادم في قلب المجتمع الواحد، فالمؤامرة تترصد الوطن في وحدته".
وتابع عون "نحن نسعى اليوم لان نعود إلى موقع السلطة لكن ليس للجلوس على مقعد وزاري سواء بالثلث زائد واحد أو عشرة أو ثمانية أو خمسة، إنما نسعى لان نشارك في القرار الوطني لجعله ملائما للمجتمع اللبناني وليس لتوقيفه وتعطيله كما شاء أن يشرح بعض الوزراء، ولكن أن يدعي رئيس الحكومة، وهنا أتكلم عن رئيس حكومة لبنان وليس عن رئيس حكومة سني أو رئيس جمهورية ماروني أو رئيس مجلس شيعي، أتكلم عن رئيس يخصني أنا كماروني كما يخص الطائفة السنية، وليس هناك مذهبية في معالجة الشؤون العامة، وليس هناك صفة لرئيس الحكومة غير كونه لبنانيا ولجميع اللبنانيين. واذ ننتقده اليوم، لا نوجه نقدنا كما شاء البعض الى الطائفة السنية، بل الى رئيس الحكومة اللبنانية الذي بأدائه أخطأ كثيرا، ويجب ان يتنحى عن مركزه ويجلس مكانه سني آخر اكثر خبرة ومعرفة بنسيج الشعب اللبناني وقضاياه الوطنية".
وأشار عون الى اننا "نعاني اليوم من حفلة تهميش مبرمجة، وكأن من هم في الحكم يريدون خلق حالة صدامية. نحن لسنا في هذا الصدد إنما نفتش عن الانفتاح، عن أي انفراج لنصل من خلاله إلى وحدة وطنية يشارك في صنع قرارها جميع اللبنانيين. لا نستطيع أن نقبل أن الحكومة القائمة اليوم هي حكومة وحدة وطنية، بل خرجت عن حالها الطبيعية. هناك الخروج عن النصوص الواضحة في الدستور، نتمنى على رئيس الحكومة ووزرائه أن يقرأوها مجددا وصباح كل يوم حتى يقتنعوا أمام هذه الجماهير أن حالتهم أصبحت غير دستورية، وكلنا يعلم أن خرق الدستور يشكل مخالفة جسيمة قد تحيل صاحبها أمام القضاء. وأتمنى لو أن رئيس الوزراء ووزراءه معنا اليوم، ولا يختبئون وراء الشريط الشائك وخلف ملالات الجيش. فمن كان شعبه معه لا يحتاج إلى شريط شائك، وإنما إلى بعض رجال الأمن لحمايته من مجنون أو من هامشي طبيعته سيئة، ولكن لا يختبئ من شعب".
ودعا في الختام رئيس الحكومة ووزراءه إلى "أن يستقيلوا ويصبحوا مثل زملائهم يمارسون تصريف الأعمال حتى نهاية الازمة، والخروج بحكومة وحدة وطنية تعالج المشاكل الشائكة". وقال "لسنا هنا بصدد تفسير الحلول وتفاصيلها ولكن المخرج الوحيد الباقي هو الاستقالة. وإننا مستمرون بالاعتصامات حتى تحقيق مطالبنا. تبقى إشارة إلى أن لغة الأرقام ما عادت تنفع في الحسابات.. وعليكم أن تشغلوا عدّادتكم الخاصة لمعرفة الرقم الحقيقي للمشاركين، مع أن "الجزيرة انترناشيونال" قالت انه يقارب المليون، وهو الأكبر في تاريخ لبنان، والـ بي.بي.سي عبر مراسلتها قالت ان الحشد كان معتداً بحجمه".
ثم ألقى النائب علي حسن خليل كلمة قال فيها "انتم حقيقة لبنان، انتم حقيقة الوحدة في هذا الوطن، مارسوها، حققوها بأن تستمروا بصوتكم، لا لبقاء هذه الحكومة، نعم لحكومة الوحدة الوطنية. نريده اعتصاما سلميا ديموقراطيا لنحافظ على سلمنا الأهلي. انتم مدعوون جميعا لان تكونوا النموذج، لان تكونوا الصورة المشرقة عن قيمنا وعن وعدنا أبدا أبدا بالدفاع عن لبنان، عن حريته وعن اقتصاده الذي نحن اليوم نحرص عليه أكثر بكثير من حكومة تفتقد للشرعية والدستورية. فلنبق معا حتى نحقق شعارنا ومطلبنا بقيام حكومة الوحدة الوطنية، وهي آتية آتية آتية بإرادتكم جميعا".
ولان دعوة المعارضة هي للاعتصام المفتوح حتى إسقاط الحكومة، فقد تميزت فاعليات هذا اليوم بالخطب المسائية التي تناوب عليها كل من رئيس حركة الشعب النائب السابق نجاح واكيم، وعضو كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي عمار، في وقت استمر المعتصمون في خيمهم التي نصبوها قبالة السراي الحكومي، مطلقين شعارات وهتافات منددة بالحكومة ورئيسها حتى ساعة متأخرة من الليل، قبل أن يعودوا مع الصباح في اليوم التالي ليمارسوا "الطقوس" ذاتها.
الانتقاد/ العدد 1192 ـ 8 كانون الاول/ ديسمبر 2006