ارشيف من : 2005-2008
التربية المقاومة (*)
كتب نسيب أبو ضرغم
المقاومة قبل أن تتشكل وتظهر كعمل مادي، هي مفهوم تربوي بالأساس، وبمعنى أوضح هي مكوّن أساسي من مكونات التربية الفردية والعامة. فكيف يصبح الفعل المقاوم تجسيداً لمفهوم مكوّن للتربية؟؟
لا بد من الاشارة بشكل عام إلى أن المقاومة هي تتويج أو تجلّ عملاني لمسار طويل يبدأ بتكون فردي وبالتالي عام لانتماء معين، يشكل شرطاً جوهرياً لاستمرار وجود وعي الفرد وبالتالي الجماعة. هذا الوعي بالانتماء يترتب عليه وعي مصالح المجموع الذي جرى الانتماء اليه، المصالح المادية والنفسية، ويصبح وعي هذه المصالح ترجمة للقاعدة المقدسة القائمة على ضرورة استمرار الوجود العام.
وعي الانتماء، واستطراداً وعي المصالح المرتبطة بالوجود المنتمي اليه (الأمة) يكون مادة مبادئ أساسية تتناول كافة الجوانب من الوجهتين المادية والروحية، مبادئ هي النهج الأساس الذي يشكل قاعدة انطلاق لمنظومة مفاهيم ينتجها المجتمع هي ذاتها الحلقات التي تربط البناء التربوي للفرد والجماعة.
بهذا المعنى يمكننا القول بأن التربية هي الصياغة الاخلاقية ـ الاجتماعية للمبادئ العامة القائمة على وعي الوجود والانتماء اليه "أمة" في كافة جوانب مصالح هذا الوجود سواء المادية منها أم النفسية.
شروط قيام المقاومة
بعد هذه المقاربة العامة لموضوع التربية كصياغة أخلاقية ـ اجتماعية للمبادئ العامة المؤسسة لسلامة الوجود بكافة مصالحه، لا بد من عرض شروط قيام المقاومة أية مقاومة.
لقيام المقاومة بنظرنا ثلاثة شروط، شرطان روحيان وشرط مادي أما الشرطان الروحيان فهما:
1 ـ تكوّن وعي لمصالح الجماعة (أمة ـ حية...) المادية والنفسية.
2 ـ استعداد نفسي لمواجهة الأخطار المؤدية إلى ضرب هذه المصالح المادية ـ النفسية.
3 ـ تحقق الشروط المادية للخطر أو احتمال تحققها.
واننا سوف نأخذ بالمنهج المدرجي لتفسير ظاهرة المقاومة، من حيث ضرورة تلازم الشروط المادية والروحية لتحقق المقاومة كتعبير عن موقف عام حماية لمصالح المجموع العام.
بنظرنا لا يكفي حصول الخطر لتقوم المقاومة، فحصول الخطر هو الجانب المادي من معادلة المقاومة. فالظلم لا يكفي لحصول الثورة بل يجب توافر شرطين آخرين لحصولها هما: الشعور بالظلم والاستعداد الروحي لمقاومته، فإذا أخذنا هذه المعادلة الفكرية إلى الواقع نرى أن المقاومة في بلادنا لم تأت من فراغ، كما أن أية مقاومة لا يمكن أن تأتي من فراغ، فهي ذات جذور ضاربة في عمق التربية العامة للمجتمع، فالسؤل المطروح لماذا المقاومة؟ يجد جوابه في سؤال آخر هو من أجل ماذا المقاومة؟ فالجواب عن هذا السؤال يحدد درجة الوعي بالانتماء والوعي بالمصالح ومدى تجذر المفاهيم الوطنية في العملية التربوية.
ثمة من لا يرى اليوم أن خطراً اسرائيلياً قائماً على لبنان، هذه تربية مرتكزة إلى عقود طويلة كرست مفاهيم مشوهة عن الانتماء الوطني والقومي وعن طبيعة المخاطر المحيطة بهذا الانتماء. من يقول هذا القول لا يمكن أن يكون مقاوماً، لأنه بالأساس لا يرى بحكم التربية الوطنية والأخلاقية أن ثمة خطراً يحيق بوجوده حتى الفيزيائي قبل المعنوي منه.
من خلال عرض الشروط الثلاثة لقيام المقاومة يظهر البعد الفلسفي لمفهوم المقاومة، فهي بهذا البعد تشكل تعبيراً مادياً عن معطى روحي، تشكل هي مبادئ فكرية تربوية، هي بهذا المعنى تجسيد لوحدة العوامل المادية ـ الروحية الكفيلة في تحقق الفعل المقاوم، وعندما نقول بأن المقاومة هي تعبير مادي عن معطى روحي، نقصد تفصيلاً بذلك، بأن المعطى الروحي يمثل القناعة بالحق، فالحق بنظر الفرد والجماعة هو المعطى الروحي الذي يقف وراء التجليات المادية المعبر عنها بالمقاومة، وهذه التجليات تتعدد في أشكالها إلا أنها ترتكز إلى معطى واحد روحي هو حق الجماعة بوجودها وحماية وجودها عبر حماية مصالحها المادية والنفسية.
اذاً كيف تتكون القناعة بالحق، الحق في الوجود الحر المستقل، يتم ذلك عبر مسار طويل من تراكم المفاهيم والقيم والتجارب في سياق صراع الأمم، كل هذه المفاهيم والقيم والتجارب هي مادة التربية العامة التي يجري عادة صياغتها بمبادئ عامة أساسية تشكل أساساً لأي بناء عام تقيمه الجماعة القومية.
الوعي للوجود يحقق معرفة موقع الفرد والجماعة وموقع الفرد والجماعة يحدد دور هذه الجماعة وبالتالي لا مقاومة حيث لا وعي للذات، لأن وعي الذات يحدد الحقوق، ووعي الذات يحدد المخاطر التي تحيق بالحقوق، فيتشكل إذاك الشرط الروحي الأول، هذا الشرط يشكل بدوره أساساً للشرط الروحي الثاني وهو الاستعداد النفسي للدفاع عن هذه الحقوق، وعند اكتمال هذين الشرطين الروحيين تصبح المعادلة جاهزة في جانبها الروحي، وهي بانتظار اكتمال الجانب المادي وهو تحقق الشروط المادية للعمل المقاوم، فإذا كان العمل المقاوم تجلياً مادياً ـ روحياً بالمعنى الفلسطيني، فهو في المعنى التاريخي فعل نوعي يمكن أن يؤسس لمسار جديد من التاريخ ولمضمون جديد لهذا المسار، فالانتقال من العبودية إلى الحرية، ومن اليأس إلى الأمل ومن التراجع والركود إلى التقدم ومن التخلف إلى الحضارة ومن الانفعال بالأحداث والقوى الخارجية إلى الفعل بها، كل ذلك هو حالة نوعية في تاريخ الشعوب والجماعات لا يمكن ان تتحصل الا بفعل الصراع ـ المقاومة.
المقاومة بهذا المعنى هي الفعل التاريخي، بمعنى أوضح وأدق، هي تحقق الفعل التاريخي عملاً مادياً ونتائج ومفاعيل، الا أن هذا الفعل يجد كينونته الأولى في التربية ومنظومة مفاهيمها، التربية التي انتجت انساناً يعرف من هو من حيث تاريخه وتراثه واستهدافاته، يعرف حقيقته الاجتماعية، أي انتماءه وولاءه، يعرف مصالح المتحد الذي ينتمي اليه، يعرف أهمية هذه المصالح الحيوية على مصيره المادي والروحي، يعرف حقيقة الاخطار المحدقة به، كل هذه المنظومة من المعارف والمفاهيم تشكل الخلفية التربوية ـ الاخلاقية التي تتحكم بشروط قيام المقاومة، من هنا يمكن الاشارة إلى دور التربية في صناعة التاريخ، وما المقاومة سوى وسيلة من الوسائل التي تفرض الظروف استعمالها لحماية وجود الجماعة، وصيانة تراثها وتأمين استمرارها في الوجود في كامل حريتها ونموها.
في هذا السياق لا بد من توضيح هذه المقولة، حيث تعتقد أن التاريخ هو نتاج فعل انساني وسط مؤثرات طبيعية ومادية ينشأ بينها تفاعل يخضع لطبيعة وقوة العناصر المكونة للعملية التاريخية، ومن حيث ان الانسان هو العنصر الايجابي من المعادلة، بمعنى العنصر المبادر والمقرر والعامل، والمحرك لتبعية العناصر المادية من طبيعة واقتصاد وسواها، فتكون العملية التاريخية عملية تحمل ابعاد هذا الانسان، بمعنى انها تبدو كترجمة مادية لقدرات هذا الانسان وقواه المادية والنفسية وبالتالي تشكل المكتنزات الفكرية والروحية لهذا الانسان العامل الفاعل في صناعة التاريخ، وعندما نقول المكتنزات الفكرية والروحية فنعني بها الوليدة الحتمية للتربية.
الجماعة اليهودية كتجربة
فلنأخذ مثلاً الجماعة اليهودية، وهي جماعة دينية وليست جماعة قومية، لأنها تضم اشتاتاً من البشر ينتمون إلى أمم مختلفة موزعة بين أمم كثيرة وذات ثقافات متنوعة، إلا أن هذه الجماعة اليهودية استطاعت أن توجد لنفسها دولة بالرغم من عدوانيتها ولا شرعيتها وعصيانها على كل النواميس والشرائع، استطاعت لأنها أخذت بمنهج تربوي دأبت تخضع أبناء اليهود، بحيث أصبحت الغيتوات أطراً مكانية ـ تربوية متمايزة عن باقي الأحياء المحيطة بها.
هذه التربية التي علمت ابناء اليهود ان فلسطين أرض الميعاد، وأنها حق قطعه الله لأبناء ابراهيم، وأن على اليهودي ألا ينسى صهيون، وأن يعيش العمر عاملاً للعودة اليه، تربية جعلت اليهودي كائناً معادياً لأي محيط بشري محيط به، وكانت الغاية من ذلك منع اندماج اليهود في بقية المجتمعات حفظاً لهم كمادة بشرية يهودية.
أقانيم التربية اليهودية هي صياغة سلوكية ـ فكرية ـ اجتماعية للمفاهيم التوراتية ـ هذه التربية صنعت انساناً يهودياً يحمل أبعادها ومفاهيمها ودفعته لأن يقوم بأي أمر مهما كان غير أخلاقي في سبيل تحقيق ما تربى عليه.
التربية عملية انشائية تبدأ عند حدود وعي الطفولة، ولأن العدو اليهودي فهم فعل التربية في العملية التاريخية، نجح إلى حد أنه جعل المسار العام لحركة التاريخ منذ مؤتمر بال الصهيوني يتحرك وفق غاياتها البعيدة، سواء لجهة خلق دولة اسرائيل أو لجهة اغراق العالم في الحروب والدماء وتفكيك المجتمعات، وها هو العالم اليوم لا يلتفت إلى فلسطين كوطن تاريخي واحد للفلسطينيين، ولا إلى المقدسات تنتهك كل يوم، ولا إلى الاعتداءات والحروب التي دأبت اسرائيل على شنها على العرب دونما رادع أو رقيب او محاسب، العالم يخضع اليوم لمفاهيم توراتية جسدتها الصهيونية بناء تربوياً خلق جيلاً بل أجيالاً يهودية تهدد وجودنا القوي برمته.
بالمقابل، من جهتنا نحن، كيف تبدو الصورة، ففي الوقت التي كانت التربية اليهودية للفرد اليهودي تندرج في خلق تربية يهودية عامة تشمل المجموع اليهودي برمته، في هذا الوقت منذ ما قبل مؤتمر بال وبعده لم يكن قد تكون لدينا شيء عن مفهوم التربية القومية، كانت التربية ترتكز على مفاهيم سلوكية ـ اخلاقية ـ اجتماعية لتهذيب الفرد، دون أن تنتج وعياً قومياً، وعياً عاماً،أن سبب هزيمتنا امام التربية اليهودية هو التربية. اليهودية كانت تهدف إلى خلق وعي قومي يهودي في وقت لم يكن لدينا وعي قومي يحدد لنا العدو وشروط مقاومته.
الانتقاد/ العدد1268 ـ 23 ايار/مايو2008