ارشيف من : 2005-2008

لبنان: المؤتمر الدولي الأول للوسطية في لبنان"يتابع أعماله لليوم الثاني في طرابلس

لبنان: المؤتمر الدولي الأول للوسطية في لبنان"يتابع أعماله لليوم الثاني في طرابلس

تابع "المؤتمر الدولي الأول للوسطية في لبنان" أعمال اليوم الثاني في طرابلس بحضور الرئيس نجيب ميقاتي فعقد 4 جلسات عمل تناولت مجموعة من القضايا المتصلة بالوسطية في الحياة السياسية والقضايا المعاصرة والنظم الإقتصادية. وستعقد الهيئات المنظمة للمؤتمر ظهر يوم غد الأحد جلسة ختامية حيث سيتم الإعلان عن توصيات المؤتمرين.‏


وبدأ اليوم الثاني أعماله بجلسة تحت عنوان الوسطية في الحياة السياسية ترأسها نائب رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الوزير السابق عمر مسقاوي. وتحدث في الجلسة النقيب المحامي جورج موراني، الأستاذ محمد طلابي ود. عبد الغني عماد. وتحدث مسقاوي مشددا على ان الوسطية ليست نزعة أخلاقية بل هي معيار لحسن الخلق كما هي معيار لفعالية العزم وسعادة النتائج وهذا يعني ان الوسطية منهج وأسلوب تتناول المشكلات في مفهوم العقيدة الدينية. وقال أن السياسة هي أسلوب العمل المشترك دائما لأن رفاق الطريق الذين تتباين نظرتهم للأمور لا بد أن يتلاقوا في الوسائل التي تفضي الى حل المشكلات. وأن لبنان في أزمته الحاضرة هو في أزمة مصطلحات في التخاطب السياسي في زمن السفه الفكري وهو يتفتت الى ما يشبه لعبة "البازل" الجغرافية لأنه أصبح خارج التاريخ.‏


وتناول موراني قضية الوسطية والتعددية، فقال أن تعدد الاتجاهات والآراء السياسية والثقافية والدينية واقع قائم في لبنان كما هو حال كل المجتمعات إضافة الى تعدد الجماعات المتمايزة دينيا ومذهبيا وإثنيا. وإعتبر أن الوسطية كنظرة إلى الحياة وكنظام قيم، تؤثر في سلوك الأفراد والجماعات وخاصة في علاقتهم ببعضهم. وكل فضيلة هي وسط بين حدين متطرفين، الشجاعة هي وسط بين الجبن والتهور. والكرم هو وسط بـين البخل والتبذير. باختصار شديد، الوسطية هي رفض التطرف والغلو ورفض الثقافة المؤسسة لهذا الاتجاه. ان ثقـافة التكفير والإلغاء وثقافة الاستعلاء والاستئثار والعنصرية هي ذاتها ثقافة التطرف والغلو، وهي متناقضة كليا مع الوسطية والاعتدال. فلا يمكن ان نكون وسطيين ونمارس في الوقت عينه ثقافة الهيمنة والغلبة. ولا يمكن ان نكون وسطيين ونسمح او نجيز لأنفسنا ما نمنعه عن الآخرين ونحرمه عليهم. في كل الطوائف والمذاهب، وفي كل جماعة من الجماعات قد نجد اتجاه الوسطية واتجاه التطرف. الوسطية ليست حكرا على دين أو طائفة أو مذهب وكذلك التطرف".‏


وسأل موراني مجموعة أسئلة ذات دلالات تتعلق بلبنان، وقال: هل يمكن لكيان سياسي متعدد الجماعات الطائفية والمذهبية أن يحيا ويستمر دون اعتماد قيم الوسطية والاعتدال؟ وهل أن الأزمات المتتالية في لبنان ناجمة عن تعدد جماعاته الدينية أو المذهبية أو السياسية؟ ام أن هذه الازمات ناجمة عن طبيعة النظام السياسي وقوانينه التي لم تحسن ادارة العلاقات بين الافراد والجماعات. أم هي نتيجة لتعدد الجماعات وسوء ادارتها معا. وهي يمكن فصل أزمة النظام السياسي عن نظام القيم الذي يسود نظرة الجماعات الى نفسها والى بعضها البعض. وإستنتج موراني قائلا:" التعددية اللبنانية، وفي اطار مفهوم التنوع تفرض الوسطية والاعتدال كنظام قيم سياسي".‏


ثم تناول موراني مجموعة مقارنات للحلول على عدة مستويات مثل العلمانية، ميثاق الوفاق الوطني، الغاء الطائفية السياسية. وختم :" لبنان، هذا البلد الواقع في قلب الشرق الاوسط ، على شاطىء البحر المتوسط ، كل جغرافيته تدعوه الى الوسطية، فلماذا لا نمارس الوسطية فيما بيننا، ولماذا لا يمارسها أولو الامر والتدبير؟"‏



 
ثم تحدث محمد طلابي من المغرب في كلمة بعنوان " الوسطية وعلاقة الحاكم بالمحكوم". وبدأ طلابي كلامه بالتشديد على أن "المصالحة عهد بالتطبيع الكامل و التاريخي بين أطراف الفعل الأساسيين في كل وطن إسلامي. عهد على التعاون لمداواة بعضنا البعض من كل الأمراض و المخاوف السياسية عند كل الأطراف السياسية. و المصالحة أيضاً ميلاد جديد لحركة التحرر في نسختها الثانية، حركة تحرر ثانية لمواجهة و مقاومة الآثار المدمرة للغزوة الاستعمارية الثانية الجارية تحت عنوان: العولمة". وأضاف :"نحتاج حركة تحرر تضمن لنا موقعاً وموضعاً في الخريطة التاريخية للألفية الثالثة، و تحمينا من الانقراض التاريخي لا قدر الله.‏


وإعتبر طلابي أن حركة المصالحة في بلادنا يجب أن تشمل الأطراف الرئيسيين الذين يضمون كل أبناء التيار العلماني يميناً و يساراً. المؤمنون بإخلاص بالعمل الشرعي و المحبين فعلاً لوطنهم. كم يجب أن تضم المصالحة كل أبناء التيار الإسلامي بكل طوائفهم و مذاهبهم المؤمنين بإخلاص بالعمل الشرعي و المحبين فعلاً لدينهم ووطنهم. مع كل دوائر التعبير عند هذا التيار. والطرف الثالث في هذه المصالحة الحكام. وتحدث عن قواعد المصالحة فقال أن القاعدة الأولى هي الأخذ بمبدأ الحوار، والقاعدة الثانية هي الأخذ بمبدأ الوحدة في الاختلاف والثالثة هي اعتماد الديمقراطية كوسيلة استراتيجية للتناوب على ممارسة الحكم. وإعتبر أن المصالحة تستدعي اعتماد المنظومة الحقوقية للإنسان المتطابقة في المرجعيتين. وهي جبهة مقاومة راشدة للعولمة كمعيق لنهضتنا، وحركة تحرر ثانية تُعدُّ محرك النهضة و توفر وقوده.‏


وعدد الركائز السياسية الكبرى للمصالحة بين أطراف القطر الواحد وهي العض بصدق من طرف الكل و بالنواجذ على صون مقدسات الوطن. وإعتماد خطة وطنية بعيدة المدى لتجفيف منابع الفساد الشامل ببلادنا. وفتح ورشة الإصلاح المتدرج، السياسي و الإداري و القانوني و الحقوقي و القضائي. وإعداد خطة و برنامج و حملة وطنيين لتأهيل المقاولة الاقتصادية. والعمل الحازم من كل أطراف المصالحة لتحضير الكتلة الحرجة للمقاولة المؤهلة في مجال العلم و التكنولوجيا والحجم السكاني و الموارد المادية والبشرية. وفتح ورشة الإصلاح الديمقراطي الجاد في كيان المجتمع المدني و كيان الدولة. وإعادة الاعتبار للأخلاق في العمل السياسي و تفادي "الميكيافيلية المنحطة".‏


وتحت عنوان "الوسطية منهج موحد للأمة تحدث د. عبد الغني عماد فاستهل بعرض لمفهوم الوسطية في الفقه والتاريخ والعقيدة معرجا على الأساس المعرفي للوسطية مستعينا بفهم القرآن الكريم والسنة لها. وقال أن الوسطية تقدم الاسلام على حقيقته دون إفراط او تفريط. وهي منهج، مقصود به أداة تفسير دقيقة، ويمكن القول أن الوسطية منهج لانها طريقة تفكير ومنظومة للتحليل وأداة عقلية تزود صاحبها بآليات للاستقراء او الاستنباط ضمن منطق العدل والاعتدال والتوازن الذي هو المثلث المعرفي للوسطية. هي منهج لانها محرك عقلي يتيح لصاحبه القيام بعمليات ذهنية تنظم رؤيته للكون والحياة والمجال الانساني. وهي منهج لأنها تعصم الأفراد والجماعات من الانزلاق نحو التطرف أو نحو التفريط والتساهل. والتطرف مجلبة للفتنة كما هو حال التفريط والتساهل. والفتنة هي الطريق السريع للانقسام والاقتتال بين أبناء الأمة. وفي قراءة تحليلة عدد عناوين عدة هي اشكالية الآخر في الاسلام، اشكالية التكفير واهدار الدم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.‏


وختم قائلا أنه لا وسطية بلا وسطيين ، فعندما ينكفىء هؤلاء ويتخلون عن دورهم من الطبيعي ان يحتل مكانهم اهل التطرف والانحياز والغلو والتشدد ، فتطفوا العصبيات الطائفية والمذهبية ، وتنتشر ثقافة الكراهية والحقد ، وتنبش من باطن التاريخ الصفحات السوداء ، وتستعاد لغة الفتنة ومصطلحاتها . وأن الأشياء تعرف بضدها ، وان نقيض الوسطية هو التطرف والغلو ، ونقول بأن نقيض الوسطية هو الفتنة والانقسام والاحتراب الاهلي، لذلك فان الوسطية هي منهج حياة وهي المدخل الموضوعي الموّحد للامة .‏


اليوم الأول‏


وكان اليوم الأول للمؤتمر إستهلّ أعماله بجلسة ترأسها سماحة مفتي طرابلس والشمال الشيخ د. مالك الشعار، وتحدث فيها كل من المهندس مروان الفاعوري، د. محمد الخطيب و د. عبد الحليم عويس. وتحدث سماحة المفتي الشعار بداية معتبرا أن من أهم معالم مسيرة الفكر الإنساني هو إجتماع الناس عند الوسطية. وأضاف أنه في عالمنا اليوم تشتد الحاجة الى الوسطية خصوصا وسط بوادر الخطر في العالم الإسلامي والعربي. وشدد على أن العودة الى الوسطية هي "العودة الى صمام الأمان لأنها من الصفات الأساسية التي يتفاعل الإنسان معها من خلال سويته. والوسطية هي من أهم خصائص الإسلام وسماته". وإعتبر المفتي الشعار أن مبادرة جمعية العزم والسعادة في الدعوة الى هذا مؤتمر الوسطية هي عمليا دعوة للعودة الى الأسس الفريدة للدين الإسلامي. وشدد على أن الوسطية تقوم على رباطة الجأش وتتطلّب الشجاعة والصبر والإنضباط.‏

أما الفاعوري فقدم ورقة عمل تحت عنوان "منهاج الوسطية في القرآن والسنة". وقال أن الدعوة الى هذا المؤتمر تأتي في الزمان والمكان الصحيحين، وأن لبنان يحتاج الى تعميق الوسطية فكرا وممارسة. ثم تحدث عن جذور الوسطية في الدين الإسلامي فأشار الى أن تيار الوسطية هو أصل في القرآن والسنة وسلوكيات الرسول. وفي كل أوجه الحياة الإسلامية الصحيحة ثمة تأكيد على التوسط والوسطية والإعتدال والبعد عن الإفراط والتفريط. وأشار الفاعوري الى أن المؤتمر يأتي ضمن إتجاه واحد مع عدة مبادرات أخرى شبيهة في عدد من البلدان العربية ما يؤشر الى وجود إتجاه إيجابي نحو الإعتدال وتحكيم العقل بالإستناد الى المفاهيم الإسلامية. وإعتبر أن إتباع الوسطية يتيح للعالم الإسلامي مواكبة التطور وتحقيق التنمية والإستفادة من الثورات التكنولوجية. وأضاف الفاعوري :" الحوار يفضي الى حل المشاكل بين الأنظمة والناس في كل بلداننا العربية والإسلامية والوسطية تلعب دورا لا غنى عنه في تقريب وجهات النظر. لكن علينا الإنتباه الى ضرورة إعتراف كل طرف بحقوق الآخر". وحول سبب عدم إنتشار تيار الوسطية بالشكل الكافي قال الفاعوري :" التطرف يحظى بالإهتمام لأنه يثير الناس وينال التركيز في الإعلام. وخطابات التطرف تحظى بالتغطية لأنها عاطفية ومستفزة. كما أن علينا الإنتباه الى أن التطرف يعطي الحكام المستبدين أعذارا للإستبداد، كما تعطي المستعمرين عذرا لمواصلة السيطرة بحجة مكافحة التطرف. إلا أننا نشهد حاليا حركات وسطية في بلدان عدة مثل الأردن ومصر والجزائر وسواها من البلدان العربية. وختم الفاعوري متحدثا عن أهمية الوسطية خصوصا بعد أحدات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، وعن الآمال الكبيرة لدى دعاة الوسطية لتحقيق الإعتدال وتجلي الصورة السمحة للمسلمين وتعميد الخطاب الإسلامي المعتدل في كل العالم.‏


أما "الخطيب" فتحدث عن "الوسطية بين الإفراط والتفريط وقال أن المؤتمر يعبر عن آمال عظام "في أن تعود الأمة الإسلامية الى صدارة الإنسانية من خلال الطريق القويم". وسأل الخطيب: هل تتضمن الوسطية إفراطا وتفريطا؟ وأجاب مؤكدا أن الأمة الإسلامية هي أمة وسط ويجب أن تكون شهيدة على الناس وشاهدة على الحق ولا بد أن تكون قائمة بالحق والعدل أو لا تكون شاهدة وشهيدة على الناس. وإن ظاهرة التعصب والعنف التي تعصف في العالم كله لا في العالم الإسلامي فحسب، تحتم علينا العودة الى الوسطية، وهنا تبرز ضرورة توضيح الوسطية للمسلمين وغير المسلمين في االعالم الإسلامي. فمعظم قضايانا تضيع فيها الحقيقة نظرا لوجود من يتطرف من جهة ووجود من من يفرّط بالدين من جهة أخرى، والجهتان واقعان إما في التفريط أو في الإفراط. معتبرا ان الدين يسر والغلو لا يلتقي واليسر، فهو إلزام للناس بما لم يلزمه الله". و لا يجوز عدم الإعتراف بالرأي الآخر لأنه يؤدي الى الإنغلاق والجمود ويمنع المعرفة ويقطع أوصال المجتمع. بينما الإسلام دين رحمة ولا يجوز سوء الظن بالناس. أما بواعث الغلو فهي عدة وقد تكون مثلا الفهم الخاطئ للنصوص الشرعية".‏


ورأى الخطيب أن الفهم الخاطئ للنصوص الشرعية قد يكون من أهم بواعث التعصّب. ثم تناول مسألة المبالغة فإعتبر أن الله تعالى نهانا عن المبالغة والإعجاب الزائد بالنفس والآخرين. لكنه حذر من التفريط الذي يأتي في مجال التقصير والتضييع في حق الله. فالإسلام يضيف فاعوري، يعلم المسلم كيف يحذر من تطرف الفريقين امامه. والحل هو بإتباع الوسطية والطريق المستقيم. وشرح الفاعوري مختتما كلمته:" الوسطية ليست تساهلا في الحياة ولا تنازل، ونحن بأمس الحاجة للمحافظة على قيمنا وأخلاقنا لكي تستمر الحضارة. والإسلام يدعو الى الحلول الوسط مع شرط التمسك بحقوق الإسلام كاملة والتحضّر جيدا للجهاد لمنع الأذى والعدوان عن الأمة".‏


وتحدث عويس عن مجموعة من النقاط تحت عنوان "الوسطية والسلام الفكري". وبدأ كلامه بالقول "الإسلام قضية عادلة إلا أنه للأسف وقع بين يدي محامين فاشلين". وشدد على أن الوسطية ولئن كانت هي المنهجية المعتمدة في مراحل عدة ، فإن الحصاد المتمثل في السلام الفكري سيكون إفرازاً طبيعياً لكل مرحلة سابقة، وبالتالي يعمل عمله في المرحلة التالية. وأضاف:" فكم تعامل فلاسفة في العصر اليوناني وأبدعوا، حتي وإن كانت لهم أخطاء- مع المعرفة والكون دون أن يمتهنوا القراءة والكتابة".وأضاف عويس:"أما المنهج اللاوسطي القائم على رفض الحياة وإغفال حق الطاقات المختلفة الضرورية، وتكثيف العبادة في جانب علي حساب الجوانب الأخرى، فحسبه أن الرسول رفضه، وأظهر شيئًا من الغضب عندما سمع به، وأظهر خروجه عن منهجه للأمة كلها، حتى تعلم الأمة طبيعة هذا الدين، وبالتالي تعمل في إطار الوسطية العادلة".‏


وختم عويس فقال :"إن الطابع العالمي للرسالة الإسلامية، يجعل الوسطية وتحقيق السلام الفكري العام خصيصة أساسية في الأخلاق الإسلامية التي يجب أن تكون مطلقة تشمل كل الناس، وألا تكون أخلاقًا عنصرية تحترم قومًا وتجاملهم علي حساب الآخرين، كما يقع الآن في عالم الإنسان الأول أو الأبيض الشمالي. فالأخلاق الإسلامية عكس ذلك، ولا تخضع إلا للحق وللعدل المطلقين، وللرحمة العالمية. ونحن نجد من فقهنا لرسالة الإسلام ، قرآنًا وسنة أن هذه الرسالة بطبيعتها رسالة رحمة وسلم وسلام وأمان للناس كافة".‏


مداخلة الرئيس الحص‏ / الوسطية: ما لها وما عليها‏ 
 
وكان الرئيس سليم الحص وجّه رسالة الى المؤتمرين جاء فيها:" كثيرا ما تكون الوسطية فضيلة، والمقصود الوسطية في الفكر والعمل، في النهج والسلوك والتوجه، في المضمار السياسي كما في الميادين الاقتصادية والثقافية وخلافها، ولكن الوسطية لا تعني بالضرورة الوقوف في منتصف الطريق بين عقيدة وخلافها، بين فكرة ونقيضها، بين توجه وعكسه. وانما تعني في كل الحالات التعقل والتروي والانفتاح على الرأي الآخر واعتماد الحوار والنقاش البناء سبيلا للوصول الى تسوية تعود بالخير على المجتمع والوطن.‏


وحجتنا في هذا القول نستمدها من طرح السؤال: هل من الوسطية في شيء ان يكون احدنا على مسافة واحدة من الايمان والكفر، من التوحيد والالحاد، من الصدق والكذب، من الامانة والخيانة، من الصديق والعدو؟ وان وقفنا مثل هذا الموقف فنحن لا نسلك طريق الوسطية بمعناها المحمود، وانما نكون قد فرطنا بثوابت وقيم ومبادئ يجب ان نتمسك بها ارضاء لله وللضمير وتجاوبا مع مقتضيات المصلحة العامة في المجتمع. فلن تكون الوسطية فضيلة اذا كانت ستؤول بنا الى التخلي عن فضائل او عقائد او قيم من المفترض ان نتمسك بها وان لا نفرط فيها من قريب او بعيد.‏


اذا كانت الوسطية تقضي بالاكتفاء بنصف حرية ونصف سيادة ونصف استقلال لبلادنا، فنحن نرى الفضيلة ليس في الوسطية انما في التطرف اذا كان التطرف يعني الحرية والسيادة والاستقلال كاملة غير منقوصة. فالتطرف في تلك الحال سيكون مكرمة وليس مأخذا او عيبا او نقيصة.‏


واذا كانت الوسطية تقضي بأن نشيح عن التمسك المطلق بالقيم الانسانية والاخلاقية والحضارية التي نؤمن بها، فلا كانت الوسطية ومرحبا بالتطرف. مرحبا بالتمسك المطلق بالثوابت على هذا المستوى.‏


نعم، نحن نرى في الوسطية فضيلة بمعنى الانفتاح على رأي الآخر والاستعداد لملاقاة الآخر في منتصف الطريق في امور وقضايا خلافية او جدلية. هذا من صلب فلسفة الديموقراطية. فالتصلب في الرأي ولو على الباطل في تلك الحالات ليس في الديموقراطية في شيء. فالتصلب بهذا المعنى يعادل التفرد والاملاء، وكلاهما نقيض الديموقراطية.‏


الاصلاح عموما ينطلق من وجهات نظر قد تكون متضاربة. ويصح هذا على الاصلاح السياسي كما على الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وغيره فلا يستحيل مشروع الاصلاح في هذه الميادين برنامجا تغييريا برسم التنفيذ عمليا الا بالاتفاق بين اصحاب الآراء المتباينة على خطوات عملية تترجم عملية الاصلاح على ارض الواقع. فالاصلاح على المستويات كافة موضوع جدلي، يستوجب النقاش، ويتطلب التوصل الى توافق على صيغ مشتركة للحلول المطروحة. فالوسطية يفترض ان تكون رائد المتحاورين حول قضايا الاصلاح، والا لما كان اصلاح.‏


العقائد الدينية ليست من المواضيع الجدلية، فالايمان منطلقها ومرساها. والمثل العليا على الصعيد الاجتماعي ليست مادة جدلية، فالمثل تبقى مثلا وان كان التزامها سيبقى قاصرا عن تحقيق المبتغى، اذا ما اقترن التطبيق باعتبارات معينة تتعارض مع مصالح حيوية لفئات معينة من اصحاب القرار. تتحدث الدول والسلطات المحلية عن سياسات واستراتيجيات لها اهداف سامية معينة، سواء على الصعيد السياسي او على الصعيد الاقتصادي او الاجتماعي او الثقافي. وقد تتضارب هذه الاهداف مع مصالح آنية لفئات نافذة في المجتمع او بين اصحاب القرار، وعند ذلك يخضع تطبيق السياسيات والاستراتيجيات المعتمدة الى مقتضيات مصالح شعبية حيوية ولو آنية. هنا تكون الوسطية هي طريق المخرج من المأزق، والمخرج في تلك الحال يسمى ديموقراطيا اذ هو يعبر عن مصالح وبالتالي ارادات شعبية. وهذا جوهر الديموقراطية.‏


خلاصة القول: ان الوسطية ليست فضيلة بالمعنى المطلق، انما هي فضيلة في التصدي لقضايا جدلية هم المجتمع، وهي ليست فضيلة عند التعاطي وثوابت وقيماً وعقائد تخرج عن نطاق الجدل والمناقشة. الحرية الاقتصادية والاشتراكية والشيوعية، واستطرادا الرقابة على النشاط الاقتصادي وتنظيمه، وكذلك ايضا ضبط الاحتكارات وتنظيم الاسواق والحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي، وكلها سياسات تقبل النقاش والجدل. نظرا الى تفاوت نوعيات الاجراءات المطلوب اتخاذها ومدى ما يمكن بلوغه من الاهداف المعلنة عمليا. هذه المسائل ومثيلاتها في شتى ميادين الحياة العامة في اي بلد هي من المواضع الجدلية التي تتضارب في شأنها وجهات النظر، وهي ليست من الثوابت. لذا فان التوصل الى حلول في شأنها قد يملي اعتماد الوسطية سبيلا للتوفيق بين منطلقات متعارضة.هذا رأينا في فلسفة الوسطية كما نفهمها. نحن نرى فيها فضيلة في مجالات معينة، ولا نرى لها مكانا في التعاطي مع شؤون ايمانية او ثوابت وطنية او قومية او انسانية".‏


2008-04-12