ارشيف من : 2005-2008

المقاومة في لبنان محطات مضيئة على درب التحرير والانتصار

المقاومة في لبنان محطات مضيئة على درب التحرير والانتصار

ثماني عشرة سنة من المقاومة العسكرية والسياسية والصمود الشعبي والوطني العام أفضت إلى نصر كبير توّج بانسحاب الاحتلال من معظم الأراضي اللبنانية المحتلة في 25 أيار من العام 2000، ليصبح هذا التاريخ مناسبةً سنويةً للاحتفال بعيد "المقاومة والتحرير"، ونقطة مضيئة في تاريخ لبنان والعالمين العربي والإسلامي، وفي تاريخ الدول التحرّرية التي تمكّن بعضها من نزع أثقال الارتهان للاحتلال السياسي أو العسكري، والبعض الآخر من الدول التي اتخذت من المقاومة في لبنان نموذجاً يحتذى في المواجهة المستمرة مع منظومة قوى التسلّط والهيمنة وعلى رأسها الولايات المتحدة.
محطات في مسار الضوء
المقاومة في لبنان ليست صفة محصورة بزمان أو مكان محدّد بدأ مع تشكّل الكيان الصهيوني على أرض فلسطين المحتلة، ولم تكن موجّهة فقط نحو الاحتلال الإسرائيلي الذي دأب على ارتكاب اعتداءاته بحق لبنان ولا سيما في منطقة الجنوب، فقد كانت موجّهة ضد أي قوة احتلال جاءت إلى لبنان بهدف فرض السيطرة العسكرية والسياسية على أبنائه، وبالتالي فإن المقاومة شكّلت انعكاساً لمسيرة تاريخية من العمل الميداني وتطبيقاً لمنهج ثقافي وتربوي نشأت عليه أجيال متعاقبة لمعت من بينها أسماء أبطال وشخصيات تركت أثرها في المراحل التالية من عمر الكيان اللبناني وتكوينه السياسي وتلاوينه الاجتماعية المختلفة.
وفي هذا الإطار يمكننا استعراض عدد من المراحل والمحطات الأساسية التي ساهمت، بتراكم نتائجها والعبر المستخلصة منها، في تكوين عناصر الانتصار في أيار العام 2000، وأهمها على مستوى المثال لا الحصر:
* المقاومة الشعبية
* العمليات الاستشهادية
* عمليات الأسر والتبادل لتحرير الاسرى والمعتقلين
* حرب الأيام السبعة (تموز 1993)
* حرب "عناقيد الغضب" (نيسان 1996)
* تكريس معادلة توازن الرعب وحماية المدنيين
* استشهاد القادة وأثره المعنوي على استنهاض الامة
* تطوير التقنيات العسكرية والامنية
* الاستهداف المباشر لقادة جيش الاحتلال
* من أيّار إلى تموز
انتهت ثماني عشرة سنة من المقاومة إلى نصر كبير في أيار العام 2000، إلا أن مسيرة ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب الإسرائيلية الهمجية المتواصلة على كل لبنان، قابلتها ملاحم أسطورية سطّرها مجاهدو المقاومة الإسلامية خلال عدوان تموز 2006، شكّلت محطة أخرى كان لها الأثر الكبير في ترسيخ مبدأ المقاومة ومفهوم القدرة على المواجهة وإمكانية تحقيق الغلبة على الاحتلال، على الرغم من غياب التكافؤ التكنولوجي والاستراتيجي وتفاوت الموازين العددية والمستلزمات المادية واللوجستية.
ولكن لا يمكن النظر إلى ما جرى في تموز 2006 دون الأخذ بعين الاعتبار النتائج الميدانية والوقائع المادية والمعنوية التي نتجت عن "زلزال أيار 2000"، فضلاً عن دراسة المعطيات السياسية الداخلية والخارجية والمجريات الأمنية والعسكرية التي حصلت ما بين هاتين المحطتين، ويمكن تلمّس مجموعة من العناصر المتصلة التي تدعم نظرية امتداد تفاعلات النصر في أيار، ولعل أهمها التالي:
المقاومة منهج عسكري
1- تأكيد المنهج العسكري للمقاومة من حيث اعتبارها خياراً ناجعاً لاستعادة الحق اللبناني المسلوب، وفي مقدمتها تحرير الأراضي المحتلة، وذلك على الرغم من سياسة التشويه والتشويش التي تعرّض له هذا المنهج، سواء على مستوى استهداف ثقافته ومعاييره الإنسانية من خلال التركيز على وصف فعل الاستشهاد بأنه يعكس "ثقافة الموت"، أو من خلال توهين نتائج التضحيات التي قدّمها شعب المقاومة مقابل ترويج الخيارات الدبلوماسية (العقيمة) باعتبارها أقل كلفة. وقد ثبت فشل هذه السياسة مقابل النجاح في إرساء سياسة مقاومة القوى الشاملة، وهو ما تجلّى في مشاركة القوى والأحزاب السياسية الأخرى في منظومة المقاومة، فضلاً عن وقوف الجيش اللبناني إلى جانب المقاومين وامتزاج دماء شهدائه مع دماء شهداء المقاومة في أكثر من موقع.
المقاومة منهج سياسي
2- تأكيد المنهج السياسي لقيادة حزب الله والمقاومة في التعاطي مع الأوضاع الداخلية، بما فيها من اتجاهات وتيارات مؤيدة ومعارضة للمقاومة، والخارجية التي تخاطب شعوب العالمين العربي والإسلامي، والعالم الغربي الداعم للكيان الصهيوني والأنظمة العربية المصنفة في خانة الاعتدال). وقد أثبت هذا المنهج صوابيته من خلال التفاف الشعب اللبناني والشعوب العربية حول المقاومة، وفي المقابل أماط اللثام عن الأنظمة المتغرّبة عن تاريخ بلادها وشعوبها باتجاه التبعية والانخراط ضمن الفلك الأميركي.
استنهاض حركات التحرّر
3- أدى انتصار المقاومة في لبنان وما رافقها من مصاديق واقعية على الأرض إلى استنهاض حركات المقاومة في كل أنحاء العالم، وضاعف من مشاعر القوة واتجاهات التحرر لدى الشعوب، وبث في النفوس أملاً كبيراً بإمكانية تحقيق الانتصار على الرغم من تفاوت موازين القوى، وهو ما بانت تجلياته في فلسطين والعراق على وجه الخصوص، حيث يواجه المحتل الأميركي والإسرائيلي أزمة بقاء، ويمعن في الغرق في مستنقع احتلاله، ما يدفعه إلى إعادة ترتيب أوراقه بعد أن سقطت كل مخططاته بفضل المقاومة وعملياتها.
كسر مقولة "الأسطورة"
4- إحداث انقلاب حقيقي داخل مجتمع العدو، على المستويات الاجتماعية والسياسية والعسكرية، حيث كان المستوطنون قد ركنوا إلى واقع مفاده بأن "إسرائيل" كيان محصّن لا يمكن هزيمته، وذلك كنتيجة للهزائم المتتالية التي لحقت بالعرب على مدى سنين طوال، والتي لم تؤد إلا إلى المزيد من التراخي والترهّل، حتى جاءت المقاومة الإسلامية في لبنان لتتحوّل من مجموعات مقاتلة صمدت في عدة مواقع خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، إلى مدّ عسكري جهادي استطاع على مدى أقل من عقدين من الزمن أن يكسر مقولة "الأسطورة" ويهزم الجندي ـ النموذج، الذي طالما شكّل كابوساً مخيفاً للبناني والعربي على حد سواء.
نقاش وجودية "إسرائيل"
5- فتح انتصار المقاومة على العدو نقاشاً واسعاً داخل أوساط النخب السياسية والعسكرية والاجتماعية، وتحوّل إلى مادة للدراسة في معاهد الدراسات الإستراتيجية والمنتديات الاجتماعية والثقافية، ليس داخل الكيان الصهيوني فحسب، بل في كل أنحاء العالم، ولا سيما في أوساط النخب العربية والمثقفين والمؤرخين، لأن إحراز الانتصار كان في مواجهة إحدى أعتى القوى العالمية التي تملك أكثر الأنظمة تطوّراً في شتى المجالات، والنقطة المركزية في هذه النقاشات تمحورت حول وجودية هذا الكيان وإمكانية استمراريته ودراسة نقاط القوة ومكامن الضعف في إطار ثقافة الاستيطان وسياسة التوسّع، والتي سقطت كلها أمام فعل إرادة وصمود مجتمع المقاومة في لبنان، هذا البلد الصغير بحجمه وإمكانياته مقابل غيره من الدول الكبيرة، العربية منها والغربية، التي تملك القدرات الهائلة التي تمكّنها ليس من الصمود فحسب، بل امتلاك زمام المبادرة.
"إسرائيل" شرطي أميركي مهزوم
لعل من أهم عوامل انتصار المقاومة في لبنان أنها أرست معادلة إستراتيجية ضمن موازين القوى، بحيث أجبرت العدو على إجراء جردة حسابات جذرية أوصلته إلى خلاصة مفادها أن احتلاله لم يؤد سوى إلى تعميق أزمته وانزلاقه في منحدر التهالك والاندثار، وأن أي تفكير باحتلال جديد أو عدوان آخر سيقود إلى فتح احتمالات انهيار شامل لمنظومة الأمن التي جهدت "إسرائيل" لإرسائها، ليس في الكيان الصهيوني فحسب، بل في المنطقة ككل، بحيث لن تكون جبهة جنوب لبنان وحدها مفتوحة، بل ستكون هذه الجبهة مفتاحاً وباباً لجبهات أخرى لن تكون أقل اشتعالاً وتأثيراً، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة الأميركية ومن يدور في فلكها إلى المبادرة لجر أساطيلها إلى المنطقة لحماية مصالحها وحماية "إسرائيل" باعتبارها نتاجها الاستعماري، في حين من المفترض أن يكون هذا النتاج "الشرطي" الذي يحمي المصالح الغربية في منطقة الشرق الأوسط.
محمد الحسيني
الانتقاد/ العدد1268 ـ 23 ايار/مايو 2008

2008-05-23