ارشيف من : 2005-2008
لا حجاب في «مونت ـ كارلو»
فرنسا ذلك المجمع الضخم الذي يضم مجموعة «الراديوهات» الناطقة بتسع عشرة لغة ارادتها فرنسا ان تكون صوتها للعالم. صديقتي صاحبة الدعوة تعمل في احدها، في راديو مونتي كارلو الموجه الى عالمنا العربي . الاذاعة غنية عن التعريف وان أضيف إليها حديثا «الدولية» بعد نزاع قانوني على استخدام التسمية مع اذاعة محلية فرنسية. لكنها اضافة لن تمس بأي حال دفء الحنين الى تلك الاذاعة المرتبطة في ذاكرتي بصوت الإذاعي الراحل حكمت وهبي.
الحديث عن تاريخ الاذاعة سيثير اهتمام الصديقة التي ستقترح علي ان اقدم ترشحي للعمل فيها كمحررة متعاونة. كان قد مضى على وجودي في فرنسا ما يقارب السنتين منذ اتيتها لاتمام دراستي بعد حصولي على قبول من احدى كليات الاعلام. طوال تلك المدة ابتعدت عن الصحافة وانهمكت في اعداد رسالة الجدارة. لكن انشغالي بالدراسة الاكاديمية والبحثية لم يوقف اشتياقي لها لا سيما ان الاخبار التي كانت تأتي من البلد تثير نهم كل من سبق له وتورط في هذه المهنة.
وتأسيسا على ما تقدم لم أتأخر عما اعتقدت انها فرصتي في «مونتي كارلو» التي اندفعت اليها بحثا عن تجربة مهنية جديدة وأيضا عن مورد مالي في مدينة بات العيش فيها يستنزف كل مدخراتي، مدينة تعلمت فيها ولاول مرة ان اراقب ما انفقه.
بنجاح، اجتزت المباراة التي خصصتها الاذاعة لاختيار «صحفييها الجدد» وفق معايير مهنية محددة. ما أهلني للانتقال الى مرحلة «التصفيات النهائية» أي الخضوع لمقابلة مع المدير العام فيليب بوفيلار ومديرة الاخبار (السابقة) أنياس لوفالوا.
وبنتيجة المباراة والمقابلة تم اختياري مع مجموعة من المرشحين لنكون على لائحة الصحفيين الذين سيجري التعاون معهم على ما جاء في رسالة «التهنئة» التي وصلتني في ما بعد.
صحيح ان تلك الرسالة صيغت بشكل لا يلزم الاذاعة بتوظيف الفائزين، الا انها تقول باستخدامهم وفقا لاحتياجاتها. وعليه كان يمكن ان يمر عدم استدعائي للعمل من دون ان يثير التساؤل، لولا تسريبات من داخل الاذاعة تحدثت عن تمنع مرده الى اسباب غير معلنة.
اعتذر من القارئ الكريم اذ فاتني ان اذكر في بداية مقالي هذا اني «محجبة». إذاً هي اسباب تتعلق بارتدائي الحجاب في محيط لا يظهر استعدادا لقبوله فكان الرفض. الاعتراض المباشر جاء من شخصين يعملان في الاذاعة، لا اعرفهما الا بالاسم ولا يعرفانني الا بالحجاب.
الاول يبرر رفضه بدواعي حماية العلمانية في مؤسسة فرنسية عامة، رغم انه لا قانون يجيز المنع في حالتي. والثاني لديه مشكلة «مع حتة الحجاب دي». هكذا ببساطة شديدة لم يستطع الرجلان رؤيتي الا من خلال الحجاب الذي اعتقدا ربما انه يحجب عني التبصر بحقيقة الامور او قد يشكل عائقا امام كفاءتي المهنية.
لاشهر، ظلت الامور عالقة في اروقة الاذاعة من دون ان تصل لخاتمة تنصفني. الى ان قررت لقاء احد المسؤولين في الراديو (اتحفط على ذكر الاسم). قلت لاسمع منهم علّي احصل على جديد. ولكن لم يكن هناك من جديد تحت سقف «مونت ـ كارلو الدولية». فالاعتراضات التي سبق ونقلها لي اصدقائي لم تتبدل طالما ان الحجاب ما زال «جاثما» على رأسي.
كان الرجل صادقا معي. قالها بصراحة: «بعض العاملين في الراديو يرفضون وجود محجبة بينهم على اعتبار انها قد لا تستطيع انجاز مواضيع معينة بسبب الحجاب»! وأضاف ان «ثمة حساسية من الحجاب لدى البعض في راديو فرنسا الدولي» مقترحا علي «عصرنة حجابي» او بالاحرى تعديل شكله لكي يصبح مقبولا وسط زملاء المهنة!!
ادرك ان هناك التباسا في التعاطي مع مسألة الحجاب في فرنسا منذ إقرار قانون حظر الرموز الدينية في المدارس. وأدرك ان البلد بات ينظر بريبة الى كل ما هو «اسلامي» منذ تفجيرات ايلول الاميركي. لكني لم اكن ادرك ، لسذاجتي، ان «الاسلاموفوبيا» (رهاب الإسلام) قد تضرب في المكان الذي يفترض انه اوجد ليشكل مساحة للحوار وللوصول الى الآخر على اختلافه.
ذهبت في افتراضاتي الى اقصاها.. قلت ربما يخشون من «شطحات» سياسية يفترضون ان حجابي يخفيها. ولكن هل تسير الامور على غاربها في هذه الاذاعة التي تفاخر بمهنيتها؟ أليس هناك رئيس تحرير يطلع على الاخبار قبل بثها على الهواء؟ هل يخافون على الاذاعة من حجابي؟ ام ان عدوى فيليب دوفيلية «اسلمة فرنسا» قد انتقلت الى البعض في مونتي كارلو !!
اما عن «عصرنة» الحجاب اكراما لرجال يريدون اخضاع شكلي لمزاجيتهم؟ فذلك امر لم استطع هضمه. اذاعة، تتوجه الى جمهور عربي لن نقول ان غالبية نسائه بل نصفهن على الاقل محجبات، لا تتحمل تحت سقفها صورة محجبة لهو الانفصام بحد عينه...
المصدر : صحيفة السفير اللبنانية