ارشيف من : 2005-2008

محمد عساف: السماء مكشوفة لنا ..الحرية تقترب

محمد عساف: السماء مكشوفة لنا ..الحرية تقترب

"كانت ليلة خريفية، سماؤها صافية وقمرها منير وهواؤها بارد يلسع العابر من شارع لشارع، بدأت حينها القلوب تخفق بقوة فلم يعد للحلم مكان، كانت الساعة حينها تشير الى الثانية عشرة منتصف ليل الأحد السادس من أيلول 1993 حين خيّم الظلام على معتقل الخيام، وكانت عتمة الليل هي الشاهد على تنفيذ الخطة".
قصة "الهروب الكبير" من المعتقل.. التي هي شاهد على ارادة المقاومين في تحدي جبروت العدو ومقاومته بالايدي العارية يرويها لـ"الانتقاد" أحد أبطالها محمد عساف الذي اعتقل في العام 1986 أثناء قيامه بواجبه في مقاومة العدو:

في غمضة عين مرّت ذكريات سنوات وسنوات من التعذيب، "تذكرت حينها الظلام والسياط والسجن والأنين ووقع أقدام السجانين يتردد في صدى الممرات الضيقة".
قلت لمحمود "لنتكّل على الله".
كنا أربعة "محمود رمضان، سعود أبو هدلا، داوود فرج وأنا محمد عساف" التقينا في زنزانة واحدة تحمل الرقم 11، تقع في زاوية معتقل الخيام، قريبة نوعاً ما من ساحة الشمس، كنا نسترق جميعاً السمع الى صوت الحرية.
"باب الزنزانة هو الطريق الأفضل للهروب" قلت لهم! اجتمعنا معاً بعد عمليات مد وجزر من التفكير والتخطيط والموافقة على وضع خطة نهائية لتنفيذ العملية التي استغرقت ما يزيد عن الشهرين والنصف من التحضير، والسؤال الأهم الذي يجول في عقولنا هو: من أين نبدأ؟ وكيف يمكن ان نحصل على حرية بالأغلال؟
كان باب الزنزانة الحديدي بطول 3 أمتار ونصف وعرض 3 أمتار ونصف، يسد الطريق، ولا إمكانية للعبور الى الحرية الا عبره.
كان ينقصنا "نحن الأربعة" حبال نحفّ بها الحديد، فلم نجد أمامنا سوى استخدام "خيطان بعض ملابسنا المتينة نوعاً ما والصالحة للاستخدام".
كان العمل موزّعاً بيننا نحن الاربعة، وكان من مهام كل واحد تأمين حبل من الخيطان وجدله ليصبح متيناً أثناء الاستخدام، ولم تكن هذه الحبال وحدها كافية، كنّا نضع الملح المتبقي من الطعام على الزوايا العليا للباب الحديدي ليزيد من حدة اهترائها، وكانت الحبال المشغولة من الخيطان نحفّها بالحديد فتزيد من حرارة هذا الحديد الأسود فيتمددّ الحديد وينكسر.
خلال شهرين ونصف من العمل شبه اليومي المستمر لم تتوقف مراقبتنا لساحة الشمس وما يعتليها من أسلاك شائكة يمكن أن تشكل عائقاً امامنا، ولم ننس ان الوصول الى هذه الساحة يمر بممر طويل جداً.
كان الشوق الى الحرية ومتابعة العمل النضالي الدافع الأساسي للتفكير بخطة الهروب من هذا المعتقل الكبير في بلدة الخيام، وكان يومها  التحرير مجرد حلم بعيد، مع قساوة الظروف التي نعيشها لحظة بلحظة، لذا لم يكن من الممكن مجرّد التفكير بأن يداً ستأتي يوماً لتكسر القيد وتفتح لنا أبواب الحرية.
بدأنا بتنفيذ الخطة، وكنت أول من هرب بسبب نحافة جسدي وضعفي. للمرة الاولى علقت بين أسلاك الباب، وبصعوبة وبشد وضغط ومن دون ضجة نجحت بالعبور، فلحق بي كل من محمود وداوود وسعود.
نجحت الخطوة الأولى بعد تعب وعناء، كان لا بد لضجة أن تصدر منّا نحن الأربعة فاستيقظ رفاقنا في الزنازين المجاورة، كان البكاء هو التعبير الأول، وكان الخوف علينا من السجانين همّهم الأكبر، كانوا يترقبوننا لحظة بلحظة.
ربع ساعة من الزمن ووصلنا الى ساحة الشمس بين ممرات المعتقل وحراسة السجانين النائمين، كان هواء الحرية الأول يتطاير من هذه الساحة الفارغة إلاّ من لهاثنا وأنفاسنا المضطربة، الممزوجة بالخوف والحرية والفرح والسعادة، عندها ادركت أن الموعد مع غدٍ جديد قد حان، وان هذا التحرير الأول ما هو إلا حصيلة تعب واصرار وهزيمة هذا العدو، وكأن الوقت حان لتخرج الطيور من اعشاشها.
وقف داوود في تلك الساحة وحملني على كتفيه، عملت على توسيع الأسلاك الشائكة بيدي، كانت الدماء التي تسيل من بين أصابعي أشبه بلون ارجواني نرسم به بصمات أصابعنا وايدينا على حجارة وجدران هذا المعتقل، وصلت الى السطح وانتشلت كلاً من محمود وسعود وداوود.
يصمت محمد قليلاً، يغرق في التفكير لحظات، يتنهد بصوت عالٍ، تعود الدمعة الى عينيه، فيمسحها قائلاً: وقفنا على سطح المعتقل ثم زحفنا، سمعنا رئيس الشرطة يتحدث خارجاً، نظرنا الى السماء، انتابنا الصمت دقائق طويلة، كان الطريق أصعب بكثير مما كنا نتصور، بصمت أدرنا وجوهنا على جوانب وزوايا سطح المعتقل، كانت الدشم تحيط بنا، لكن العزيمة لم تفارقنا. دار حوار صامت بلغة العيون بيننا نحن الأربعة، لكن ما من خيار أمامنا سوى أن نقرأ أرقام وحروف الصمود المتشحة بإكمال هذه الخطة والفوز بالانتصار الكبير.
ما اطول الوقت في تلك الليلة، كانت أجسادنا تنهشها مشاعر تتراوح بين الخوف والفزع والتوتر والارتياح، كان الخوف رفيق الحلم وتحقيقه. زحفنا على سطح المعتقل بقوة، استغرق زحفنا حوالى العشرين دقيقة حتى وصلنا الى أعلى معتقل البنات، استمعنا الى أنين التعذيب والتحقيق، استوقفنا المشهد ولكن الوقت كان يدهمنا، نظرنا الى أسفل المعتقل، عندها تراجع أملنا بنجاح الخطة، "لقد غاب عن تفكيرنا مئات الحراس حول المعتقل"، قلت في قرارة نفسي.
كانت هذه اللحظات الأخيرة لحظات حاسمة للخطة لكن لم تتراجع العزيمة، وبدأ الأربعة يهبطون نزولاً على حائط المعتقل حتى داست ايديهم وارجلهم التراب، حمل محمد كمية قليلة من التراب وفرك به يديه ووجهه ليصدق نفسه خوفاً من أن يكذبه خياله، نظر في عيون محمود وسعود وداوود، بدأ أمل الحرية يتحول الى حقيقة.
حقل الألغام الذي يحيط بالمعتقل كان لا بد من عبوره في طريق الحرية.. واحتمال الموت فيه وارد: "لم نهب الموت، فموتنا هو دفاعاً عن حريّتنا" يضيف محمد: "كانت مشية البطة الطريقة المتفق عليها للخروج من الاختبار الأخير هذا، كنت انا أولهم، وكان يسبقني الإيمان بالحرية وامامها أرض مضاءة مفترشة بالعشب اليابس والشوك الحاد تحتضن مئات من الألغام، كان انسلاخ الروح عن الجسد أول شعور انتابنا مع أول خطوة في حقل الألغام هذا.
عبرنا.. وكان هذا العبور بمثابة تجاوز للخطر الأكبر.. حتى وصلنا منطقة صخرية، بقي أمامنا ثلاثون متراً من حقل الألغام ونختفي عن الأنظار، واستمررنا في المشي حتى حصل ما كان في الحسبان، فقبل نهاية حقل الألغام انفجر لغم أرضي، كان داوود هو الشهيد، كان انينه واضحاً لرفاقه الثلاثة، لكن الرجوع كان الأخطر بالنسبة لهم جميعاً، فالاتفاق الذي كان بينهم يحتم على البقية اكمال المسير، فإن لحق الأذى بأحدهم يمضي البقية دون ان يلتفتوا الى الوراء لأن حريتهم وحياتهم الهدف الأسمى. كانت خارطة الطريق واضحة لدى الجميع، وكان الاتفاق باللقاء في نقطة محددة في حال اضطر الاربعة للافتراق.
 الجميع خارج المعتقل، إلاّ داوود الذي بقي وحيداً في أرض تلفّها الألغام. كان الشعور بالحرية بعد عملية هروب خطيرة هو المنتظر، ومن جديد بدأت عملية اخرى هي عملية الهروب من بين الأشواك.
"بحكم معرفتي بالمنطقة رسمت لهم الطريق بكل تفاصيلها"، يضيف محمد: "وصلنا الى أول منطقة الخيام وبدأت عمليات التمشيط والبحث والتفتيش والاستنفار، كان صوت الرصاص يلفّ مسامعنا، وكانت الرصاصات تدوي من فوق رؤوسنا، كانت الساعة قاربت الثالثة فجراً، ركضنا بقوة لم نمتلكها من قبل، وكان هذا الركض هو الأول بعد سنوات من التعذيب والخمول والقهر لجسم نحيل، بحثنا عن القوة بين عظامنا وعضلاتنا خوفاً من فقدانها".
يتوقف محمد عساف قليلاً، يتذكر سعود في لحظات قوته الأخيرة قائلاً "في اللحظات الأخيرة تعب سعود من الركض، بحثت عن محمود لم أجده، فقد ضلّ الطريق، تقدمت من سعود ورأيت التعب قد تملّكه، مسكت رأسه وأدرته نحو السماء وقلت له: أنظر الى السماء انها فوقنا، لا تضيع حريتك هنا.
استعاد سعود جزءاً من قوته ومشينا الى نهر الحاصباني، "التقيت بمحمود من جديد في نقطة تم الاتفاق عليها، بحثنا عن سعود لكن طال انتظاره.
وصلنا الى ابل السقي، بدأت حينها عمليات بحث الجيش الإسرائيلي علينا أنا ومحمود خصوصاً بعدما اعتقل سعود مجدداً في كمين اسرائيلي، كانت مخابئنا في تلك اللحظات أجباباً كبيرة من الأشواك التي التهمت ما التهمته من جلدنا، حتى سطعت شمس الحرية في وديان منطقة العرقوب ومنها انتقلنا الى صيدا فبيروت بعد مطاردات وعمليات بحث واختباء في الحقول، وانتظار ساعات وساعات بين الأشواك وفي قعر المياه، ولكن للحرية نقول:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة    فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر.
أمل شبيب
الانتقاد/ العدد1264 ـ 25 نيسان/أبريل 2008


2008-04-25