ارشيف من : 2005-2008
النزوح السكاني من الجنوب: نزيف مستمر منذ ما قبل الاستقلال
سعاد نور الدين(*)
النزوح حركة انتقال الأفراد ضمن حدود المنطقة الجغرافية للدولة، وهي ظاهرة اجتماعية عرفتها المجتمعات البشرية، فكان الانتقال من مكان إلى آخر هدفاً للحماية الاقتصادية والأمنية.
في القرن الثامن عشر، ومع الثورة الصناعية، اتجه النزوح من الأرياف نحو المدن، حيث كانت بدايات القطاع الصناعي في المدن، وخصوصاً في لندن. نزح العديد من العاملين من الأرياف في القطاع الزراعي الذي كان سائداً، حيث كان يخضع العاملون فيه لأبشع أنواع الاستغلال والاستبداد في ظل النظام الإقطاعي الذي بدأ بالتقهقر. لكن العمل في النشاط الاقتصادي الجديد لم يكن أفضل كثيراً في بداياته في معاملته للعامل، وخصوصاً النساء والأطفال، ما استدعى قيام أطر اجتماعية ثانوية منظمة كالنقابات، والقوى السياسة للدفاع عن حقوق العامل، وتنظيم عقود العمل بين العامل ورب العمل. شكل القطاع الصناعي وما نتج عنه من نشاطات اقتصادية أخرى كالخدمات والتجارة، ظروفاً وشروطاً مختلفة عما كان سائداً في القطاع الزراعي لجهة الأجر، أو التعامل مع الآلة، وفي تحديد ساعات العمل، شكلت عوامل جذب للعاملين في الأرياف باتجاه المدن للعمل في هذا القطاع، وخصوصاً لتلبية حاجاته في اليد العاملة الرخيصة.
في لبنان اتجه النزوح السكاني بشكل رئيس باتجاه العاصمة بيروت وضواحيها، خصوصاً من لبنان الجنوبي، إذ شكلت نسبة النازحين منه عام 1970 نسبة (4,39٪) من النازحين إلى هاتين المنطقتين (4,28 منهم من الأرياف)، واللافت أن هذا النزوح بدأ قبل الاستقلال، إذ إن نسبة (9 ٪) من هؤلاء النازحين يعود تاريخ نزوحهم إلى ما قبل عام 1940 كما نقرأ في معطيات الجدول رقم (1)، ثم اشتدت وتيرته بعد الاستقلال في عام ,1943 وخصوصاً بعد نكبة فلسطين، حيث كانت نسبة مهمة من الجنوبيين يعملون في فلسطين وأيضاً بعض اللبنانيين الذين كانوا يملكون أراضِي في سهل الحولة، إذ نشطت حركة تدفق رؤوس الأموال اليهودية في عهد الانتداب البريطاني محاولة التمركز في المؤسسات الاقتصادية الحيوية للسيطرة على البلاد. فخلق هذا التدفق طلباً على اليد العاملة في المرافئ والمزارع، ترافق مع تدهور المردود الاقتصادي للقطاع الزراعي التقليدي الغالب في الجنوب اللبناني.
بعد نكبة فلسطين في عام 1948 وإقفال الحدود مع فلسطين المحتلة، وتحوّل حركة التجارة من مرفأ حيفا إلى مرفأ بيروت، اشتد النزوح السكاني من الجنوب اللبناني باتجاه بيروت وضواحيها، فارتفع في عام 1950 إلى (7,11٪).
كما تشير معطيات الجدول رقم (1).
ترافق ذلك مع تردي الخدمات الاجتماعية، وانعدام البنى التحتية، وتخلخل القطاع الزراعي السائد، وبالتالي المستوى المعيشي، وهذا ما أظهرته دراسة بعثة ارفد الفرنسية التي استقدمها الرئيس الراحل فؤاد شهاب بغية دراسة الواقع اللبناني بعد الاضطرابات التي حدثت في عام 1958 لوضع حد للصراعات في المجتمع اللبناني، حيث أظهرت نتائج الدراسة التفاوت الهائل بين الفئات الاجتماعية والمناطق اللبنانية وفي تركز الثروة في أيدي نسبة قليلة جداً من اللبنانيين (4٪)، وأن معظم النشاطات الاقتصادية والمؤسسات الخدماتية متمركزة في بيروت وفي جزء من جبل لبنان. ترافق مع إهمال شبه تام للمناطق الطرفية، وبهدف الحد من هذه المشكلات، شرعت وزارة التصميم العام بوضع خطة خمسية لتنفيذ مشاريع تنموية في مختلف المناطق اللبنانية، بهدف تحقيق الإنماء المتوازن، فبدأ التوسع في المدارس الرسمية والمستشفيات الحكومية وفي إيصال شبكات الكهرباء ومياه الشرب إلى مختلف القرى والبلدات الجنوبية واللبنانية، وفي إنشاء صندوق الضمان الاجتماعي، وديوان المحاسبة، ومجلس الخدمة المدنية، ليتاح المجال أمام ذوي الكفاءات للعمل في الإدارات والمؤسسات الرسمية، وفي توسع اختصاصات الجامعة اللبنانية، وفي إنشاء المشروع الأخضر بهدف مساعدة المزارع في استصلاح أرضه لمضاعفة مردودها الاقتصادي، وبالتالي الحد من النزوح والهجرة، وكذلك بدأ التوسع في إعطاء رخص التبغ للجنوبيين ودعم إنتاجه من خلال شراء الدولة للمحصول من المزارع.
ساهمت هذه السياسة في تحسين الأوضاع في المناطق الجنوبية قياساً إلى السابق، لكنه ترافق مع تمركز شديد ونوعي في بيروت وضواحيها للمؤسسات التعليمية والصحية ولقطاع الخدمات (مصارف، تأمين، فنادق) وللتجارة وللصناعة التي عرفت عصرها الذهبي في منتصف الستينيات، شكل ذلك عوامل جذب قوية لمختلف شرائح المجتمع في الجنوب اللبناني، حتى للمتعلمين منهم. حيث وجدت كل شريحة بعضاً من إشباع حاجاتها من العمل والتعليم والطبابة الترفيه، ما ساعدها على تطوير نفسها وتحسين سبل معيشتها وتحقيق بعض طموحاتها، خصوصاً إذا ما علمنا أن مستوى الدخل الفردي في قطاع الزراعة هو الأدنى، بحيث أنه يبلغ (30٪) من مستواه في القطاع الصناعي، و (20٪) من مستواه في قطاع الخدمات والتجارة، وحوالى (2٪) فقط من معدل الدخل في الخدمات المالية (مصارف، تأمين)، ليتبين لنا أن الدخل الوسطي في الجنوب الذي يسيطر فيه قطاع الزراعة هو أقل بكثير من مستواه في هذه المناطق، فارتفعت نسبة النازحين بين عامي 1965 و1970 لتشكل النسبة الأعلى (19٪) من مجمل النازحين الجنوبيين حتى عام .1970 ثم دخل عامل آخر أيضاً على أسباب النزوح، هو الاعتداءات الإسرائيلية على منطقة حاصبيا في عام .1967 التي توالت أيضاً في عامي 1970 و1973 باجتياحات محدودة على الجنوب. في عام 1972 تفاقمت حركة النزوح وبلغت نسبتها (5,28٪) من السكان المسجلين في خمسة أقضية جنوبية كما نقرأ في معطيات الجدول (2)
هي: صيدا، صور، مرجعيون، بنت جبيل والنبطية، وكما نلاحظ، فإن النزوح لم يقتصر فقط على الأرياف، بل تعداه إلى المدن الجنوبية أيضاً.
لكن فترة الازدهار والبحبوبة هذه ـ كما يسمونها ـ لم ينعم بها جميع اللبنانيين ولم تدم طويلاً، إذ شكل التضخم الذي بدأ في عام 1972 كابحاً للتقدم الاقتصادي الاجتماعي للطبقة الوسطى، وخلّف نقمة في البلاد تجلت في اضطرابات وتظاهرات (لمعلمين، عمال، مزارعين) وتظاهرة لصيادي الأسماك في الجنوب، وبالتحديد في مدينة صيدا، للدفاع عن حقوقهم في الصيد في المياه الإقليمية اللبنانية، وبعد أن أعطي ترخيص لشركة بروتين للاستئثار بالصيد البحري، استشهد فيها النائب الراحل معروف سعد الذي كان على رأس التظاهرة، لتبدأ من بعدها حوادث أمنية ومعارك متنقلة شملت لبنان بأكمله حتى عام ,1990 من ضمنها اجتياح إسرائيلي حتى نهر الليطاني في عام ,1978 أتت على إثره قوات الطوارئ الدولية لتنتشر في الجنوب اللبناني لتأمين الأمن والاستقرار، وما تزال إلى الآن، ثم كان اجتياح 1982 وصلت خلاله القوات الإسرائيلية واحتلت العاصمة بيروت، وعملت على تقطيع أوصال الوطن وأمعنت دماراً وخراباً في بناه الاقتصادية ومؤسساته، فتراجع دور الدولة، إلى أن وقعّ اللبنانيون اتفاق الطائف مع المملكة العربية السعودية الذي أنهى الحرب والقتال في لبنان، وصدرت عنه وثيقة الوفاق الوطني / سنة 1989 التي نصت على ضرورة احترام الديموقراطية والحريات العامة والسير بالإنماء المتوازن والإصلاح المالي والضريبي، فكانت خطة النهوض الاقتصادي التي وضعها مجلس الإنماء والإعمار، لكنها ركزت على مشاريع البنى التحتية على حساب البنى الاقتصادية المختلفة، كما تمركزت معظم مشاريعها في بيروت الكبرى، وبقي جزء من الجنوب اللبناني تحت الاحتلال الإسرائيلي بما كان يسمى الشريط الحدودي، وهي المنطقة الممتدة على طول الحدود مع فلسطين المحتلة، بعمق يتراوح بين 5 و40 كلم حسب المنطقة. كما شهد الجنوب أيضاً عدواناً إسرائيليا عامي 1993 و1996 فانعكس هذا الواقع على محدودية الاستفادة من المشاريع المخصصة للبنان الجنوبي، حيث أظهرت دراسة خارطة أحوال المعيشة الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي عام 1997 أن مناطق في الجنوب مثل بنت جبيل ومرجعيون هي الأكثر حرماناً، وكذلك بعض مناطق في البقاع والشمال، وبقي النزوح مستمراً، إذ بلغت نسبة المقيمين في جبل لبنان (الضواحي) حسب قيد النفوس في عام 2000 (5,34٪) من الجنوب اللبناني بمحافظتيه، والمقيمون في بيروت (7,17 ٪) ومعظمهم من أقضية بنت جبيل، مرجعيون، النبطية.
كما نقرأ من معطيات الجدول رقم (3):
التوزع النسبي للمقيمين في بيروت وجبل لبنان حسب قيد النفوس من الجنوب اللبناني:
المصدر: الخصائص السكانية والواقع الاقتصادي الاجتماعي لأقضية لبنان. وزارة الشؤون الاجتماعية، UNDP، مركز الأبحاث في معهد العلوم الاجتماعية، ,2000 ص .48
شهد العام 2000 تاريخ 25 أيار تحرير الجنوب (عدا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا) فهرع المواطنون بفرح قلّ نظيره لتفقد منازلهم وقراهم وممتلكاتهم. لكن هذا الجنوب المنهك من الاحتلال لم يشهد عودة دائمة لأبنائه لعدم توفر ضرورات الحياة والعيش من فرص عمل ومدارس ومستشفيات، ولتأخر مشاريع التنمية التي ارتبط تنفيذها كما يبدو بشروط دولية من أجل عملية السلام المزعومة في المنطقة.
فاستمر النزوح كما أظهرته دراسة الأحوال المعيشية للأسر عام 2004 والتي صدرت نتائجها في عام ,2006 ففي الجدول رقم (4):
التوزع النسبي للبنانيين بحسب مكان القيد زمكان السكن في بيروت وجبل لبنان:
المصدر: الأوضاع المعيشية للأسر .2004 وزارة الشؤون الاجتماعية. إدارة الإحصاء المركزي. UNDP. .2006 ص.35
الذي يشير إلى توزيع المقيمين اللبنانيين بحسب تقاطع مكان القيد ومكان السكن على مستوى المحافظات نجد أن نسباً مهمة من محافظات الأطراف (لبنان الجنوبي والبقاع والنبطية) يقيم في بيروت وضواحيها. إذ أن هناك نسبة 39.1 ٪ من المقيمين في بيروت مسجلين خارج بيروت معظمهم من جبل لبنان (6,14٪) ومن محافظة النبطية (5,10٪)، ومن محافظة الجنوب (5,6٪) في حين أن أكثر من نصف المقيمين في جبل لبنان (6,51٪) مسجلين في محافظات أخرى أبرزها النبطية (6,15٪) والبقاع (4,14٪) والجنوب حوالي (9٪) والملفت للانتباه أن نسبة (6,15٪) الفائدة لمحافظة النبطية يفوق عددها عدد المقيمين في محافظة النبطية 243.3 ألف نسمة مقابل 221.9 ألف نسمة.
وإذا أضفنا إليهم نسبة المقيمين في محافظة بيروت من محافظة النبطية تصبح نسبة المقيمين في بيروت وضواحيها من محافظة النبطية تمثل نسبة (4,55٪) في السكان المسجلين في المحافظة نفسها (النبطية). هذا النزيف البشري المستمر أصبح نزوحاً دائماً في المناطق المستقبلية (بيروت وضواحيها)، ولم يكد الجنوبيون يلملمون جراحهم حتى كان عدوان 12 تموز 2006 على لبنان الذي دام 33 يوماً هجّر قرابة مليون نسمة معظمهم من الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت غالبيتهم من أصل جنوبي، لكن سرعان ما عادوا إلى منازلهم، التي دُمر معظمها في اليوم الأول لوقف إطلاق النار في 14 آب، مع ما خلفه هذا العدوان من دمار هائل قل مثيله وبخسائر في مختلف القطاعات الاقتصادية والبنى التحتية وما لا يقل عن 1300 شهيد، معظمهم من الأطفال.
هذا الجنوب الذي لم يعرف الاستقرار الاقتصادي والأمني أصبح النزوح وكذلك الهجرة - التي لم تتكلم عنها في بحثنا السريع هذا - جزءاً ملازماً لحياة الجنوبي طبع تاريخه منذ ما قبل الاستقلال وما زال وقد يبقى كذلك طالما هناك كياناً مغتصباً على حدوده وطامعاً في مياهه وإنماءً غير متوازن. إلا أن الجنوبي أينما كان لم يتخل يوماً عن أرضه التي دافع عنها دفاع الأبطال في كل مرة كانت تتعرض للاعتداءات وانتصر.
(*) استاذة جامعية.
المصدر: صحيفة السفير اللبنانية