ارشيف من : 2005-2008
رسول الهدى
لم يشرق في هذا الكون قديماً ولا حديثاً روح أسمى من روح محمد بن عبد الله(ص)، آية إنسانية للصفاء والنقاء والوفاء والرفعة.
فيه سمو التواضع وعظمة البساطة وكمال المحبة وذروة العطاء الإنساني، روح مغايرة، نفس مزايلة لكل الكدورات المادية، والتعلقات الوهمية بكل ما في الدنيا من أهواء ونزعات ونزوات وحبّ للمال والجاه والسلطان والملك.
لقد اطلع الله على صفحة قلوب الناس أجمعين من الأولين والآخرين فلم يجد قلباً أصفى من قلب محمد فاختاره للرسالة وبعثه للهداية، فكان رحمة للعالمين.
يسأل الله محمداً (ص) "أأبعثك نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟" فيجيب: "بل نبياً عبداً"، ويسأله الله أيضاً: "أأصيّر لك جبال تهامة ذهباً وفضة، أأملأ لك البطحاء ذهباً"؟ فيجيب: "لا، بل أريد أن أجوع يوماً فأسألك، وأشبع يوماً فأحمدك".
روح نورانية شغوفة بالأعلى والأرقى، مترفعة عن كل ما في الدنيا من بهارج وزينة، مشدودة دائماً إلى تراب عشقها، زهدها وتواضعها ونسكها وعبادتها، متطلعة إلى وهج سنا النور الرباني، ثم عائدة إلى عرشها الإنساني لتتربع على أعلى قمة مجد الوفاء والإخلاص والإنسانية، رأفة ورحمة وحباً وهداية للناس، وصعوداً بهم إلى أعلى مراتب الحضرة الربانية والتوحيد الإلهي.
لم تشهد الدنيا، ولن تشهد قصة حب أعظم وأعمق من قصة الرسول الأكرم محمد(ص)، قصة العشق مع الحق، وقصة العشق مع الخلق، وقصة الارتقاء إلى قاب قوسين أو أدنى من الحق، بتعهده ورعايته للخلق.
هو العشق المتولد من المعرفة الحقة، المعرفة النورانية التي تكسب من تتنزل على قلبه وروحه حرية الانعتاق الكامل من أسر الدنيا وإسارها، هو الأمر الإلهي الأول الذي تنزل على قلب محمد "اقرأ" فكانت المعرفة سلاحه الأمضى، والعلم كنزه الأثمن، لقد أراد العلم باباً لتحرر الإنسان وارتفاعه وترقيه، فكان يفك أسر المشركين باشتراطه عليهم تعليمهم المسلمين، فكان العلم والتعليم باباً للأسرى نحو الحرية، وباباً للمسلمين نحو التحرر من ربقة الجهل.
وهو الذي قرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى "إنما يخشى الله من عباده العلماءُ"، ورأس الحكمة مخافة الله واستحضار رقابته في كل محفل.
لقد منّ الله على الرسول بالكثير من صفات العظمة وآيات الكمال، حتى كان آية مكتملة للإنسانية وصورة مفردة لأروع تجلٍّ إلهي في روح بشر وعقل بشر ونفس بشر، فبلغ العلى بكماله.
لم يأت محمد بغير الحق والمحبة والسلام والعدل والتسامح والرحمة، ولم يأمر بغير الإحسان ونجدة الملهوف وغوث الفقير وإعانة المظلوم، لقد أطلق أعظم الثورات الانسانية قاطبة، ثورة الإنسان من الداخل باتجاه التحرر والحرية، ورفض الاستعباد، لقد ملأ الرسول الأكرم الدنيا بشعاع ضياء ثورته الرائدة ليصنع مجتمعاً إنسانياً راقياً ونبيلاً هدفه السمو ووسيلته الحق والعدل، وغايته سعادة الدارين ورضا الله سبحانه وتعالى، ولقد كرّمه الله وعظّمه فجعل شهادة الإنسان بالإسلام لا تكتمل إلا باقتران ذكر محمد بذكره هو عزّ وجل، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.. وكرّمه وعظّمه أيضاً فجعله محور التوحيد بين المسلمين، فلم يختلف فيه المسلمون أبداً، بل كان دائماً ملاذ وحدتهم وجامع كلمتهم في حياته وموته إلى يوم القيامة.
ما أحوجنا اليوم إلى استحضار المثل الكبرى والقيم العظيمة السامية التي جاء بها الرسول الأكرم (ص) لنبتعد عن كل القشور والشكليات، ولننفذ إلى عمق معنى رسالته الهادية، إنها المقاصد الكبرى لديننا العظيم، وعقيدتنا السمحاء التي جاءت لتساوي بين الناس ضعيفهم وقويهم، غنيهم وفقيرهم، كبيرهم وصغيرهم، ولتجعل الناس كلهم ينعمون بالهداية والعدالة والرحمة والحرية فلا يكونون عبيداً إلا لله، أحراراً مما سواه، وفي ذلك اكتمال الهداية والنعمة.
ابراهيم الموسوي
الانتقاد/ العدد1260 ـ 28 آذار/ مارس 2008