ارشيف من : 2005-2008
… وعاد أحمد
كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحاً.. وصوت المؤذن يرتفع في سماء القرية الجنوبية المحتلة.. عندما أفاق "أبو أحمد" من حالة نومٍ متقطع يعاني منها معظم كبار السن في أواخر العمر..
أسرع إلى الوضوء مبسملاً لتأدية صلاة الصبح دون تأخير.. مبتسماً وهو يشعل بقايا شمعة… وقد تأكد من انقطاع التيار الكهربائي هامساً.. لا حول ولا قوة .. انه التقنين..
ضوء الشمعة ينتشر ببطء خجول.. ليشمل بعض أرجاء غرفته الصغيرة.. بعد دقائق أنهى أبو أحمد صلاته.. أحس بالراحة والرضى.. وكعادته بعد تأدية الصلاة، رفع نظره متأملاً صورة وحيده الشهيد.. أهلاً.. بمن رفع رأسي عالياً.. وقدم دمه ثمناً لتحرير الأرض والإنسان في وطنه.. خيّل اليه أنه سمع صوت الشهيد.. أسعدت صباحاً يا أبي.. وردّ الأب على أجمل تحية صباح، بقراءة السورة المباركة الفاتحة إلى روح وحيده الطاهرة..
وجلس حول مدفأة صغيرة.. محادثاً نفسه ويداه تداعبان سبحة سوداء.. بعد استشهادك المبارك يا ولدي.. ونجاحك مع ثلة من شباب المقاومة.. في إلحاق أفدح الخسائر بالعدو الصهيوني يوم عمّت قريتنا الجنوبية المحتلة فرحة عارمة.. وامتلأ بيتنا بالمهنئين.. بكت أمك فرحاً.. وزغردت النسوة من حولها.. وعشنا عيد الشهادة.. ولكن قلب الأم، هو قلب الأم يا ولدي.. ومع الأيام، اعتادت الانزواء وحيدة.. تحتضن صورتك.. تقبلها.. تبكي بصمت.. ولكنها لا تلبث أن تنتفض قائلة.. لا .. لا إن روح الشهيد لا تأنس للبكاء.. وتعيد الصورة إلى مكانها.. ودموع تغمر وجهها.. لا، لن أبكي.. كنت أسمعها تقول.. ولكن ماذا أفعل، دموعي تنهمر وحدها.. لا استطيع وقفها… ثم تعود إلى حالة ذهولٍ عنيفة.. وعاشت هذه الحالة طويلاً.. إلى أن سقطت ضحية مرض عضال.. لم تنفع معه أية معالجة..
وكانت مشيئة الله سبحانه وتعالى.. بعد الذكرى الثالثة لاستشهادك بأيام.. رحلت أمك عن عالمنا هذا.. وبقيت وحيداً.. فريداً.. في هذا البيت أعيش فرحاً. وحزناً.. أتأمل صورتك يا ولدي.. فأحس بفخرٍ واعتزاز.. وأتأمل صورتها.. فتغمرني أحزان وآلام .. ماذا أفعل.. اللهم لا اعتراض.. بل قبول ورضى.. لا تقلق من أجلي.. يا ولدي.. أختك تزورني دائماً.. وتهتم بشؤوني.. صغارها يخففون بحضورهم المحبب من وحدتي الموحشة.. على فكرة يا ولدي.. اختك رزقت بطفلٍ بعد استشهادك أسمته "أحمد".. انه يشبهك كثيراً.. أيضاً ابنها البكر.. يحادثني دائماً.. وتسعدني كلماته البريئة.. تأمل يا جدي.. رفاقي في المدرسة يحسدونني، لأن خالي أحمد استشهد خلال مقاومته للاحتلال الاسرائيلي.. أنا فخور به.. عندما أكبر سوف أصبح مقاوماً مثله.. أنا أكره "اسرائيل" يا جدي..
وأهدئ من روعه.. ثق يا ولدي أن الاحتلال سوف يهزم لا محالة.. والوطن سوف يحتفل بالنصر ان شاء الله.
أستأذنك يا ولدي، لم يعد الآن لضوء الشمعة مفعول.. لقد اكتمل شروق الشمس وملأ نورها أرجاء الغرفة.. نهض .. وهو يجمع بقايا همة ونشاط.. وارتدى السميك من ثيابه فالفصل شتاء وبرودته قاسية.. ثم اعتمر كوفيته وعقاله.. وأمسك بعكازٍ هو رفيقه الدائم منذ أن تخطى عتبة السبعين بسنوات.. غادر الغرفة.. وأقفل باب البيت القديم.. فأحس برعشة قوية، بعد أن لفحت وجهه المتجعد، رياح "كوانين" الباردة.. وبرغم هذا.. تابع سيره ببطء.. يتكئ على عكازه.. وجهته الطرف الشرقي من القرية.. في زيارة شبه يومية لمكانٍ ترابه يحتضن زوجته ووحيده الشهيد… سار أبو أحمد. وسط كثافة ضباب ذلك الصباح العاصف.. غير آبه بخطر دوريات العدو الاسرائيلي المتكررة… الجبناء يعلمون جيداً ان الضباب الكثيف هو عدوهم، وحليف قوي لشباب المقاومة..
تابع الرجل سيره، وقد شعر بآلام حادة تلف جسده النحيل… ولطالما حذره الكثيرون من أصدقائه بعدم الخروج من البيت… في مثل حالة الطقس هذه وأن خروجه هذا، خطر على حياته.. خاصة أن جنود الاحتلال "يمشطون" بالرصاص دائماً هذه المنطقة… ولكن إصراره على زيارة "المقبرة" كان شديداً… كثيراً ما طلبت منه ابنته عدم الخروج من البيت.. وذكّرته بتدهور صحته.. وعندما أحست بعدم رضوخه، لجأت ذات يوم إلى الحيلة وأوهمته محادثة إياه، نسيت أن أخبرك يا أبي..
لقد رأيت أمي في المنام.. كانت غاضبة منك.. وانتفض الرجل السبعيني مقاطعاً.. لماذا يا بنتي.. انا أزورها كل يوم … وأردفت الإبنة.. انها قلقة على صحتك.. وأنت لا تسمع الكلام، وتصر على الذهاب إلى "المقبرة".
لقد طلبت مني أن تعدها بعدم الخروج من البيت، والاهتمام بصحتك… رفع الرجل نظره إلى صورة زوجته المعلقة على الحائط وقد دمعت عيناه… أعدكِ.. بأني لن أخرج من البيت ثانية إلا اذا كانت ابنتنا برفقتي.. وهمست الإبنة مبتسمة.. لقد نجحت الخطة… ثم رفعت صوتها.. وأنا قبلت يا أبي..
ومرّت الأيام سريعة، متلاحقة.. وشباب المقاومة يقاتلون العدو الاسرائيلي بثباتٍ وعزيمة.. وينتقلون من نصرٍ إلى نصر.. إلى أن جاء يوم انتصر فيه "الدم على السيف" وابتسم "الحسين" وزغردت "كربلاء".. وأنعم الله على الجميع بالنصر والتحرير..
وبعد ظهيرة ذلك اليوم الأغرّ.. عاد والد الشهيد من الساحة العامة هادئاً.. مطمئناً.. فرحاً بالإنجاز العظيم.. تاركاً خلفه أهل القرية الجنوبية المحررة يحتفلون بالنصر..
ودخل غرفته في أجمل وأسعد لحظات حياته.. وعندما تأمل صورة وحيده الشهيد.. ثم انتقل بناظره إلى صورة زوجته خاطبها بصوتٍ يلفه التأثر.. رجاءً يا أم أحمد "خبّري" ولدنا أحمد بأننا انتصرنا… ودمه لم يذهب هدراً.. ثم وضع كفيه على وجهه ليخفي دموعاً حارة.. وبكاءً خافتاً.. لم يتمكن من وقفه.. عندما تسرب إلى سمعه صوت حفيده الأكبر.. جدي.. جدي.. أمي أرسلتني بهذا الطعام..
فتح الرجل المسنّ الباب متسائلاً.. لماذا لم تأت معك.. وأين أحمد.. أجاب الحفيد مبتسماً.. أولاً.. مبروك التحرير يا جدي..
ثانياً.. أنا وأمي وأبي وإخوتي سوف نزورك مساءً ومعنا أحمد…
صبحي مصطفى أيوب
الانتقاد/ قصة قصيرة ـ العدد 1149 ـ 17 شباط/ فبراير 2006