ارشيف من : 2005-2008

تحية إلى المقاومين في يوم النصر الإلهي

تحية إلى المقاومين في يوم النصر الإلهي

بقلم الأمير طلال أرسلان(*)
يصعب على المرء أن يتحدث باختصار عن حدث تاريخي كبير مثل انتصار المقاومة في العام 2006، ومحطة كثفت مراحل ولخصت قضايا شغلت العرب والعالم لعقود مضت. ماذا يستطيع الإنسان المراقب أن يقول ويكتب أمام عظمة حفنة من الأبطال انغرست في أرض الأجداد كما البذار، وتفتحت براعم عنفوانهم أزهاراً مشرقة غيّرت مفاهيم وحولت معادلات دولية. معهم بدأ عصر جديد ذو صورة مختلفة، يحمل من القديم قيمه ومبادئه وأخلاقه ويستفيد من الجديد بكل ما يناسب القضية والمشروع الوطني.
 لكن في معرض الحديث والكلام لا بد من التوقف عند نقاط رئيسية شكلت المنعطف الكبير وساهمت في بلورة الصورة والمعطى الجديد، ولا بد من تفصيل منهجي حتى يمكن فهم وتكوين الصورة.
أولا: القضية الأم والمركزية هي مسألة وجود هذا الكيان الهجين على أرض فلسطين، وهي المؤامرة العالمية الكبرى التي تواطأت على شعب أعزل وانطلقت من شعارات وخلفيات ذات أبعاد أيديولوجية أوروبية في الأساس، وتحت وطأة ما يسمى بـ"الهولوكوست" والتعويض على اليهود من العنصرية الأوروبية، كانت لنا حصتنا وتحولنا نحن إلى ضحايا، وهيأت الدول الاستعمارية لها الظروف المحلية عبر العملاء الصغار ورتبت مناخا جيواستراتيجيا يناسب وضعية نشوء ونمو الكيان الصهيوني.. فالبقعة الجغرافية داخل أرض فلسطين التاريخية طوّقت من كل الجهات العسكرية والاقتصادية، ونشأت على حدود فلسطين كيانات ذات طبيعة هشة في التركيب السياسي والحجم والدور ولا تشكل خطرا حقيقيا على ما سيسمى لاحقاً "دولة إسرائيل".. والخرائط التي رسمت درست بشكل جيد طبيعة المحيط وقدراته ودوره.
ثانياً: استطاعت هذه المنظومة العالمية وضع استراتيجية بناءة لها في كيفية الطغيان على العقل العربي والإسلامي، وأشعرتنا لعقود مضت أن العين لا يمكن أن تقاوم المخرز، وأن الأمر الواقع هو كما تشتهي هذه القوى ولا مرد لقدرها ومشاريعها، وبرهنت الأيام التالية أن العرب قد وقعوا في العديد من الفخاخ التي نُصبت، فكان أن شوهت معها صورة الأحقية وعدالة القضية، وتحول العربي من ضحية إلى جلاد ومن مقاوم إلى إرهابي. وشهدت محطات الأعوام 1948 و1967 قمة اللحظة التي أشعرت كل حر في العالم بأن المخطط قد نجح ولا تنفع محاولات مقاومته. وترسخ الاعتقاد أن كل محاولة مقاومة ستبوء بالفشل، وما زلنا نذكر كيف سقطت الهبة العربية الكبرى في عهد الرئيس جمال عبد الناصر خلال ستة أيام، مع التقدير والاحترام لدور ووطنية الرئيس، ولكن ذلك كان من الأخطاء الكبرى حين شعر العرب والعالم بأن "إسرائيل" في موقع الضحية الضعيفة.. وجاءت النتيجة مغايرة تماماً ومعكوسة، مما أحبط جيل الشباب العربي وأفقد الثقة بكل قياداته ومشاريع التحرر.
رابعاً: جاءت مرحلة العمل الشعبي المقاوم الذي نشأ بعد هزيمة 67، والذي حمل عدة أوجه فيها الإيجابيات الكثيرة، ولكنها حملت العديد من الأخطاء، وأولها الضرر في صورة القضية المركزية للعرب، وتحولنا إلى إرهابيين لا يمتلكون الشرعية والقيم في نظر الرأي العام، برغم الإيمان بأن هذا الرأي لا يقدم أو يؤخر، ولكن يجب علينا حماية أنفسنا ومحيطنا قدر الإمكان وتجنيد كل الطاقات إلى جانب قضيتنا. وجاء آنذاك عبث بعض الفصائل والمنظمات الفكري والعملي ليزيد من تعقيد الواقع، وكانت العمليات الخارجية العنيفة، وهي وإن لفتت الأنظار إلى فلسطين، لكنها أيضا تسببت بوقائع غير مفيدة.. وأيضا جاء العمل المسلح أولا في الأردن ثم في لبنان فأضر بالقضية وحوّلها إلى صراعات داخلية عبثية، وانتقلت مسألة تحرير فلسطين إلى زواريب بيروت والسياسة الداخلية اللبنانية، والفوضى في تصرف القوى المسلحة، ما شكل مانعاً بين هذه المنظمات وحاضنتها الشعبية.. إلى أن كانت الخاتمة المأساوية في العام 1982 لهذا العبث، وجاء الاجتياح واحتلال بيروت ليعود ويظهر أن "إسرائيل" هي عصا الاستعمار الفولاذي في المنطقة التي يصعب كسرها، وهنا بيت القصيد.
المرحلة الثانية التي انطلقت من رحم المعاناة اعتمدت وسائل مختلفة، وهي أصلا مختلفة كلياً في الأهداف والمنطلقات. وجاء إعلان جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية في العام 82 إبان ذروة العنجهية الاحتفالية الإسرائيلية وتراجع الهمّة والإحباط لدى الجيل الشاب لتشكل مرحلة مفصلية كان عنوانها العين يمكن أن تقاوم المخرز، أو فقط أن تصمد أمامه.. وتوالت الضربات والعمليات النوعية وتصاعدت المواجهة برغم الواقع الصعب الداخلي اللبناني حتى اتفاق الطائف والتركيز الذي عملت عليه المقاومة الإسلامية في التكتيك والأداء والاستراتيجية، ويمكن هنا أيضا تحديد بعض النقاط.
ـ الحاضنة الشعبية التي حمت المقاومة هي من أصل النسيج المحيط في هذا الواقع، وذلك أمن حماية الحركة والأداء. وكذلك عملت المقاومة على عدم ارتكاب الأخطاء ولو البسيطة في حركتها، وهذا ما يشبه الأسطورة في التعاطي المثالي لهؤلاء الرجال مع واقعهم وبيئتهم ومحيطهم، وبذلك قدموا نموذجا أخلاقيا بالدرجة الأولى قبل أن يتصدوا للعدو.
ـ ومن ثم جاءت حركة المقاومة وأداؤها في تطوير عملياتها ضد القوات الإسرائيلية المحتلة فقط، وهذا أيضا دليل حكمة ودراية وتجنيب المدنيين بشكل مباشر عند العدو شكل نموذجا رائعا، وأننا لسنا مثل هؤلاء المجرمين ونرفض أساليبهم، ومطلبنا فقط إعادة حقوقنا الينا.
ـ التميز في التدريب والتنظيم والنوعية والأداء لدى المقاومة، ما جعلها تنجح في أداء المهمات القتالية، إضافة إلى الاعتماد على الأفراد المهيئين بكل وعي وإيمان بصحة القضية في سبيل الوطن وعزته وكرامته.. رجال الله في الميدان لا يتساوى معهم عددياً كل أساطير الجيش الذي لا يُقهر، ولا تصح المقارنة في هذا المجال بين من يدافع بشرف ومحتل دخيل تلفظه الأرض وأهلها.
ـ أيضا عامل السرية التامة التي فاجأت العدو وأربكته وأعادت الثقة إلى جيل الشباب العربي والمسلم. وجاء ذلك ضمن خطاب اعلامي مدروس ساهم في خلق جو نفسي من دون أن يغرق في التضخيم والتهويل الفارغ.
ـ التعامل مع الداخل اللبناني الحساس بشكل مدروس، بحيث يقدم مادة الاطمئنان الحقيقية الى كل فئات المجتمع برغم الطعون التي تعرضت لها المقاومة في مرات عديدة. ولكن لا يصح إلا الصحيح، اذ ان الخطأ في هذا المكان قاتل، وربما الهدوء والروية سيكونان عاملا مساعدا في امتصاص العديد من الحالات.. ولماذا الاستعجال عندما تكون المواجهة مع مجموعة انقلابية مثل هذه الحاكمة التي تتعرى يوماً بعد يوم أمام جمهورها قبل الآخرين، ولم تنفع مساعيها في استكمال ما بدأت به "إسرائيل" في العام الماضي، وبخاصة عبر إثارة النعرات الطائفية والمذهبية. أما الهدف الأعلى لها فهو نزع سلاح المقاومة، أي عامل القوة من يدنا، وذلك خدمةً لـ"إسرائيل" وأميركا.
ـ القيادة الحكيمة التي تميزت بها المقاومة والتي جسدها السيد حسن نصر الله، والتي أضفت المصداقية والعزة على القضية.. وهو اليوم يمثل العلم الأبرز في مواجهة العدوان والهمجية، ويعطي المثال في الحكمة والروية في الأداء. 
ـ النموذج أيضا تجلى بوضوح في فلسطين والعراق عبر المنظمات الجهادية التي ستتخذ، أو بالأحرى طبقت هذا النموذج، وذلك يظهر من خلال حركتي حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما. وهذا يشير إلى تحول كبير يحدث على مستوى المنطقة بشكل عام.
ـ وبالمناسبة لا يمكن أن نغفل الدور الكبير الذي تضطلع به دولتا الممانعة في المنطقة، أي سوريا وإيران، اللتان كانتا الحلقة الصلبة في تشكل قوة الصمود والدعم. وهنا لا يمكن أن ننسى الدور الذي يجب أن تضطلع به الدول العربية والإسلامية الأخرى، أو على الأقل فلنقل التضامن العربي، في وجه الأنظمة المتخاذلة التي تتواطأ مع كل قوى الاستعمار والاحتلال، ولولا الخوف لكانت قد طبّعت العلاقات علناً مع كيان العدو.
أخيراً لا يسعنا في هذه العجالة إلا أن نوجه التحية الكبرى إلى هؤلاء الأبطال الميامين الذين سطروا أروع ملاحم البطولة والعنفوان، وإلى سيد المقاومة رمز التحرر في لبنان والعالم، ولا تتأكد هذه الأسطورة إلا عبر ترسيخ ثقافة المقاومة شعبياً وسياسياً في توجه الدولة والمجتمع، ونطمئن كل هؤلاء المتآمرين والمتخاذلين الى أن سلاحنا المقاوم هو  سلاح مقدس لا يُمس، وكل يد تحاول أن تمتد إليه ستُقطع، ومن لا يصدق يمكنه أن يسأل أسياده الإسرائيليين والأميركيين.
(*) رئيس الحزب الديمقراطي اللبناني

2007-08-20