ارشيف من : 2005-2008

عاصمة العاصمة

عاصمة العاصمة

معادلة واضحة: قصف تل أبيب مقابل قصف بيروت.. فعصم تهديد حزب الله بيروت يومذاك من شر العدوان، ورفع بيارق العزة والكرامة فوقها وفوق كل عواصم العرب، وارتدع العدو عن استهدافها بأي أذى.‏

بيروت حبيبة القلوب، عاصمة لبنان واللبنانيين، عاصمة العرب والمسلمين، قلب العروبة النابض، وبركان غضبها وفوران مقاومتها، لا ترضى أن تكون غير ذلك.‏

ليست بيروت ملكاً لأحد، ولا يستطيع أن يملكها أحد أو يقزّمها أحد، ليجعلها بحجم طموحاته المالية أو مشاريعه الاستثمارية. بيروت ليست فقط مقهى أو ملهى، ولا دكّانة ولا شركة عقارية أو غير عقارية. بيروت قبل كل هذا هي حاضنة الأحلام ومبلسمة الآلام، هي الجامعة والمستشفى والفوّارة بالخير والنوّارة بالعلم والمعرفة. هي فكرة كبيرة، معادلة وجودية ضخمة. هي عنوان الكرامة الإنسانية وموئل الحرية والمشاركة والسيادة والاستقلال. بيروت ليست حكراً على طائفة أو مذهب أو جماعة أو حزب. بيروت هي مدينة كل اللبنانيين، من كل الطوائف والمذاهب والمشارب. هي مختبر التفاعل الإنساني وبوتقة التواصل بين الأديان والثقافات والتيارات والملل. ولأنها كذلك فإن الذين دافعوا عن بيروت وعصموها من الاستهداف الصهيوني، ورفعوا رأسها شامخاً عالياً بين قريناتها من المدن والعواصم، فعلوا ذلك بدمائهم وتضحياتهم.. رفعوها إلى أعلى مصاف، وأعطوها ما لم يعطوا لأي مدينة أو بلدة أخرى، فارتفعت هامتها وعلت قامتها، مزهوة بالنصر مجللة بالكرامة.‏

ولكن ثمة من أراد لبيروت أن تكون ممراً لأحلامه وطموحاته وجعجعته. وثمة من أراد لبيروت أن تكون وأهلها مطية سهلة، كما اعتاد دائماً على استعمالها وقوداً لمشاريعه الفئوية ورهاناته الخارجية والتزاماته التآمرية. وثمة من جُرّ الى حيث لا يجب أن يكون، فكان ما كان!‏

لو قُدّر لبيروت أن تنطق، ولحجارتها أن تتكلم، لكانت لفظت بكل تأكيد كل أدعياء الحرص عليها، ممن سهّلوا للعدو الصهيوني عام 1982 أن يحاصرها ويقصفها ويدمّرها. لو قدّر لتراب بيروت أن يتكلم، لابتلع من انتهكوا حرماتها واغتالوا قادتها ورجالاتها.‏

ليس ما جرى اجتياحاً، ولا هو بالاحتلال والحصار والانقلاب، كما تدأب على تكراره أجهزة إعلام السلطة. ما جرى هو صرخة مدوية للحق، وانتفاضة على منطق التسلط والاستئثار، ودعوة عملية إلى المشاركة وإعادة بناء الدولة من ضمن منطق المؤسسات والدستور. ما جرى هو إعادة الوجه الحقيقي لبيروت كعاصمة للعرب والعروبة الحقة.. العروبة المؤمنة بقضاياها ومصيرها المشرف، وليس العروبة المرتهنة لسماسرة النفط ومرتزقة المواسم المنبطحة أمام الصهيوني والمستجدية بالأميركي.. العروبة التي لا تطعن نفسها بنفسها، ولا تستل خنجرها في ظلمة ليل داجٍ لتذبح حلمها الوردي.. العروبة التي تؤمن بالمقاومة وتباشرها، وتخطط للنصر وتصفه كما حلم به رجالاتها الكبار.. عروبة حلم بها الزعيم جمال عبد الناصر وحققها القائد السيد حسن نصر الله.‏

اليوم عادت بيروت إلى أهلها الحقيقيين، وكلنا أهل بيروت وأبناؤها. اليوم عاد الى بيروت إشراقها ووهجها وعزها والمجد، أما الذين وأدوا أحلامها وأودعوها حسابات في بنوك تآمرهم، فقد أصابهم الخذلان والخسران.‏

أين الذين كانوا يخوّفون بيروت وأهلها من المقاومة؟ وأين الذين كانوا يهوّلون بأن المقاومة تريد أن تنفذ انقلاباً واسعاً يطيح بصيغة العيش المشترك وتبني دولتها الخاصة؟ أينهم الآن بعد انكشاف كل الكذب الذي مارسوه طيلة المدة الماضية؟‏

الأرجح أنهم مشغولون بفبركة كذبات كبيرة كتلك التي أطلقوها وظنوا أن الناس يصدقونهم.. ها هي المعارضة وبعد أن حققت انجازاتها على الأرض بفرض معادلة جديدة، لا تغير ولا تبدل في موقفها ولا شروطها قيد أنملة. ها هي المعارضة لا تسعى بعد أن أمسكت بزمام الأمور، لأن تزيد حرفاً واحداً على مطالبها، وهي القادرة على فرض الشروط التي تريد لتحسين مواقعها وزيادة مكاسبها السياسية. ولكن شتان بين منطق المتسلطين المستأثرين، أنصار المشروع الأميركي وحلفائهم، وبين دعاة الحرية والاستقلال الحقيقيين.‏

ان المعارضة ظلت ثابتة على عهدها لم تتغير ولم تتبدل، بل هم من فعل. فالمنطق الثابت هو منطق المشاركة ومنطق بناء الدولة والمؤسسات، ومنطق السلم الأهلي، ومنطق الحق والحرية والعدالة والمساواة.‏

ستبقى بيروت العاصمة لكل اللبنانيين من كل طائفة ومذهب، ومن كل حزب وتنظيم وملة. وسيبقى أبناؤها الأوفياء الذين يعصمونها في أوقات الشدة من كل أذى وضرر، وليس أكثر أذى وأبعد ضرراً من تزوير صورة بيروت ووجه بيروت وإرادة بيروت وتاريخ بيروت وحاضر بيروت ومستقبل بيروت.. هي بيروت المقاومة، ستبقى دوماً العاصمة، وستبقى المقاومة معها ولها أبداً، عاصمة العاصمة.‏

الانتقاد/ العدد1267 ـ 15 ايار/مايو2008‏

2008-05-16