ارشيف من :آراء وتحليلات

الكارثة المناخية... بقرة حلوب جديدة!

الكارثة المناخية... بقرة حلوب جديدة!
عقيل الشيخ حسين

20 قتيلاً في بولندا. 22 في جنوب فرنسا. 18 في أركنساس بالولايات المتحدة. 42 في جنوب الصين. ومثلهم في الهند. ومثلهم في برطانيا وفي بنغلادش. وأعداد أقل في العديد من بلدان أوروبا الوسطى!


إنهم ضحايا الأمطار العاتية والفيضانات التي ضربت، في غير وقتها، بسبب اختلال دورة الفصول في ظروف الكارثة المناخية، البلدان المذكورة خلال الأيام القليلة الماضية.

العدد قليل بالطبع بالقياس إلى الألوف وعشرات الألوف من الضحايا الذين يسقطون سنوياً بوتائر متزايدة ومتسارعة تحت ضربات الطبيعة التي اضطربت وجن جنونها بفعل ما تتلقاه من ضربات يسببها النشاط البشري في عصر الحضارة الصناعية وما فوق الصناعية.

وهو زهيد ولا يكاد يذكر بالقياس إلى المليارات من البشر الذين لم يتعرضوا لضربات الكارثة المناخية بشكل مباشر، وإن كانوا يتعرضون لها بالكثير من الأشكال غير المباشرة.

ومع هذا، فإن هذه المشكلة المطروحة بحدة منذ أكثر من عشرين عاماً، ما تزال، رغم الاعتراف العام بأنها تدفع العالم نحو نهايته في الإطار المنظور، رهينة شتى أصناف التلاعب.

صحيح أن العالم يبدي اهتماماً كبيراً بهذه المشكلة. مؤتمرات تعقد، وأحزاب تتشكل وخطابات تنتج، ونظريات توضع وخطط ترسم، وإجراءات تتلوها إجراءات. ومليارات تنفق. وكل ذلك يقدم على أنه جهد هادف لمعالجة الكارثة البيئية.

لكنها معالجة لا تخرج، شأن جل ما هو معروف من معالجات المشكلات الكبرى، عن إطار النفاق. لأن المعروف أن الجميع يتباكون على البيئة في وقت لا يرون في الكارثة البيئية غير مجال خصب للاستثمار.

استثمار سياسي متعدد الوجوه، واستثمار اقتصادي. سياسي يوظف في إعادة تشكيل التوازنات بين البلدان الصناعية، واقتصادي يراد له أن يلعب دوراً في إعطاء حقنات منشطة للرأسمالية المتوحشة، وللاستغلال الذي تمارسه القوى العظمى بحق البلدان الضعيفة.

لكن هذا ليس كل شيء. فالبلدان الضعيفة، تسهم في مفاقمة الكارثة المناخية من خلال لهثها وراء اعتماد أنماط العيش السائدة في البلدان المسماة متقدمة.

أسباب المشكلة معروفة للجميع : إنها الحضارة الصناعية الراقصة حول عجلها الذهبي المعروف باسم المحرك. محرك السيارة والطائرة وجهاز التبريد والمكنسة الكهربائية، إلى آخر السلسلة.

والمحرك، كما هو معروف يتحرك بالطاقة. الفحم أو النفط أو النووي. وعندما يتحرك ليدير هذه الآلة أو تلك من آلات صناعة الرفاه البشري، ينفث غازات سامة وشحنات من الحرارة.

الغازات السامة والحرارة لا تذهب إلى الجحيم. بل تبقى هنا، بين ظهرانينا نحن البشر، في السماء وعلى الأرض وفي البحار. تقتل عناصر الحياة على الأرض وتحول الأرض إلى جحيم.

وكما هو معروف، وبدلاً من توجيه اصبع الاتهام إلى الطاقة، وبدلاً من استئصال هذه الآفة، تنصب جميع الجهود، عند الأقوياء والضعفاء، على البحث عن المزيد والمزيد من الطاقة ومصادرها، وعلى المزيد والمزيد من استخدام الطاقة وتسخيرها في خدمة الرفاه والازدهار. وكل ذلك في حلقة مفرغة تضيق انشوطتها بسرعة حول عنق الوجود البشري، ووجود الحياة على الأرض.

والمحرك ليس المذنب الوحيد. فنمط العيش البشري السائد، الاستهلاكي، بسمته المميزة المتمثلة بما لا يحصى من المنتجات التي ترمى بعد الاستعمال، أو يرمى بعض أجزائها بعد الاستعمال، بات عبارة عن مؤسسة عملاقة، أخطبوط بأذرع لامتناهية، وظيفتها انتاج المزيد والمزيد من النفايات السامة.

نفايات لا تذهب إلى الجحيم بل تبقى بين ظهرانينا، نحن البشر، على شكل جبال تحيط بالمدن، أو مواد تتلف التراب وتتسرب إلى الأنهار ومياه المحيطات... لا تبقي ولا تذر.

العالم، كما أسلفنا، ليس ساهياً عن المشكلة. من الإجراءات تنظيم حملات نظافة لا تعدو كونها في النهاية عملية نقل للنفايات من مكان إلى آخر.

وإذا ما عولجت تحت اسم التدوير، فإن معالجتها تتم باساليب صناعية تسهم بدورها في إطلاق الحرارة والمواد والغازات السامة. في حلقة مفرغة بات يصح فيها وصف الإنسان، بعد أن وصف بأنه ناطق وعاقل، بأنه بات حائراً في أمر التخلص من أوساخه، في زمن تحظى فيه النظافة بقسط غير مسبوق من الاهتمام والتبجيل. مع الإشارة الضرورية إلى أن إجراءات النظافة وما تستلزم من مواد تنظيف هي أيضاً بين أبرز عوامل التلويث... وأبرز عوامل إتلاف مصادر المياه، أو الذهب الأزرق، وفقاً للتسمية المستحدثة.

والمعروف، بعد أن أصبح من المعروف أن الحضارة الصناعية هي أصل المشكلة، أن البلدان الصناعية هي المسؤولة عن التسبب بالكارثة المناخية، وحتى عن رفض المشاريع الخجولة جداً للمحافظة على البيئة. بدعوى المحافظة على صناعاتها وأنماط عيشها ورفاهيتها.
 

لكن ما هو غير معروف بما فيه الكفاية، هو تعامل البلدان الصناعية مع الكارثة البيئية كبقرة حلوب. فبمقدار ما تقوم بدفع المشكلة نحو المزيد من التفاقم، بمقدار ما تزداد الحاجة إلى الاحتماء من المشكلة بوسائل وتقنيات تمتلكها البلدان الصناعية المتقدمة، وتستوردها البلدان الأقل تقدماً.

وتلك هي بالضبط قصة الكلام المتكاثر عن الطاقة النظيفة والتجهيزات الجديدة في جميع مرافق الحياة التي لم تعد ممكنة إلا عن طريق التكيف مع الكارثة المناخية. تكيف من مظاهره مثلاً أن بلداناً حارة حائرة في إيجاد سبل لصرف مخزوناتها المالية الضخمة تبرم عقوداً مع بلدان صناعية متقدمة تقوم بموجبها تلك البلدان باستيراد تقنيات باهظة الثمن لانتاج المطر الصناعي... ومن مظاهره أن الزراعة، مصدر الغذاء، لم تعدد ممكنة في الغالب إلا عن طريق الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، في الأسمدة والأدوية والهندسة الجينية والخيم البلاستيكية "المكيفة"... وعلى هذا القياس قس، وصولاً إلى حالة لن يكون بإمكان الإنسان نفسه أن يعيش إلا في ظروف مكيفة بالكامل، بعد أن بات جل وجوده رهينة للتكيف والتكييف. مع كل ما يستلزمه ذلك من نفقات يبتلعها العجل الذهبي...


2010-06-18