ارشيف من :آراء وتحليلات

العقوبات الإضافية... عودة المياه العكرة إلى مجاريها بين موسكو وواشنطن

العقوبات الإضافية... عودة المياه العكرة إلى مجاريها بين موسكو وواشنطن
عقيل الشيخ حسين

ما إن صوت الروس على القرار 1929 الذي قضى يفرض حزمة جديدة من العقوبات على إيران، وهو التصويت الذي أعاد وضع روسيا، بشكل أو بآخر، في الصف الأميركي، أقله في ما يتعلق ببعض جوانب الملف النووي الإيراني، حتى سارع الأميركيون إلى لا بالشكل الذي يقتضيه الاعتراف بجميلهم، بل بالشكل الذي يعبر عنه عندنا بالمثل الشعبي القائل : "أعطيه يدي فيطمع بكتفي".

ربما لأنهم ظنوا، في ظروف وحشتهم إلى إحراز أي تقدم بعد كل ما أحاق بهم من تراجعات وهزائم، بأن روسيا قد عادت إلى ما كانت عليه خلال الحقبتين الغورباتشوفية واليلتسينية من اللهاث وراء أخر عربة من عربات القطار الغربي. وبأن هذا التراجع يسمح لواشنطن بدهس جانب من جوانب التوجه الروسي نحو استعادة الموقع الذي كان يحتله الاتحاد السوفياتي على المسرح الدولي، أو على الأقل في منطقة النفوذ السوفياتي السابقة.

فمن جهة، وعلى جري عادتهم في النظر إلى الصورة بعين واحدة، طالبوا، نكاية بروسيا، بتشكيل محكمة دولية للنظر في أحداث قيرغيزيا التي تمر في مخاض صعب على طريق عودتها إلى الحضن الروسي، في وقت عارضوا فيه تشكيل لجنة تحقيق دولية للنظر في الهجوم العسكري الإسرائيلي على أسطول الحرية.

ومن جهة أخرى، وللمزيد من التعدي على الهيبة الروسية، أعطوا دفعة جديدة لما يسمونه بمنهج "التكيف المرحلي"، أي تلك الخطط البديلة لمشروع الدرع الصاروخية، والهادفة إلى دمج الدفاعات الصاروخية الأميركية في أوروبا الشرقية بالدفاعات الأطلسية في أوروبا، في خطوة تهدد بإلغاء كل التقدم الحاصل في المفاوضات بينهم وبين الروس في ملف الحد من التسلح الاستراتيجي.

وقد مهدوا لإعادة الحديث عن هذه الخطط التي سبق وأعلنوا عنها في أيلول/سبتمبر الماضي، بتصريحات أدلى بها وزير الخارجية الأميركي روبرت غيتس عن الصواريخ الإيرانية التي قال أن بإمكانها أن تصل إلى أوروبا، قبل أن يوضح بأن ذلك قد يصبح ممكناً في حدود العام 2020، أي بعد عامين على الانتهاء من تنفيذ خطط التكيف المرحلي.

المراوغة واللعب على الكلام والاستخفاف بالعقول هي أهم ما يميز الشروحات التي قدمها غيتس في تسويغ تلك الخطط التي لم تلغ ما سبق وطبل له على أنه إلغاء من قبل أوباما لمشروع الدرع الصاروخية البوشي ـ ذلك المشروع الذي قدم على أنه دفاعي بوجه الصواريخ الإيرانية، بينما هو في الحقيقة هجومي على الردع الصاروخي الروسي ـ بل عمقت ذلك المشروع وأعطته أبعاداً أكثر اتساعاً وأكثر إثارة للحنق من قبل روسيا.

خطط التكيف المرحلي هي بكل هذا العمق والاتساع لأن الصواريخ الإيرانية التي ستطلق على أوروبا لن تكون صاروخاً أو صاروخين أو عشرة صواريخ. بل إنها ستنهال على المدن الأوروبية بالمئات، على ما يقوله غيتس متسلحاً بعبارة يقول بأنه كان قد سمعها قبل سنوات من فم مسؤول روسي كبير زعم بأن إيران تشكل تهديداً للأمن القومي الروسي.

ومن هنا، يتذاكى غيتس إلى أبعد حدود التذاكي عندما يعرض على روسيا فكرة الانضمام إلى خطط التكيف المرحلي، قبل أن يتدارك هذا الشطط لاستحالة قبول روسيا بمثل هذا العرض، بكل ما يستبطنه من عدوانية بحق روسيا.

ثم يعود إلى التذاكي من باب آخر يحاول فيه الضحك على ذقن روسيا عبر التنويه بما تتمتع به الأسلحة الروسية الدفاعية والهجومية من قوة وعظمة : ضخامة خطط التكيف المرحلي تتناسب مع الحاجة إلى حماية المصالح الأميركية والمدن الأوروبية من مئات وألوف الصواريخ التي قد تطلقها إيران وكوريا الشمالية وجهات أخرى (في تطوير أميركي مستجد للأخطار القادمة من الشرق). لكن ضخامة تلك الخطط، على ما يقوله غيتس، لا تقوى على صد هجوم روسي واسع النطاق ولن تؤثر على الردع النووي الروسي !

كلام من النوع الذي لا يصلح حتى للضحك على طفل عادي الذكاء. ومع هذا يجسر روبرت غيتس على التلويح به في وجه روسيا، إما لأنه يعتقد بأن الروس ساذجون إلى الحد الذي يكتفون فيه بإشباع ذاتهم عبر هذا الضرب من المديح المبتذل، وإما لأنه أصيب بعارض من الأعراض التي تصيب النشاط العقلي مع التقدم في السن، لمجرد أن يراهن على قدرة هذا الضرب من المديح في صرف روسيا عن توجهها الحثيث نحو استعادة موقعها الدولي، كمنافس لأميركا، ولو أدى بها ذلك إلى اللعب على الملف النووي الإيراني بهدف دفع أميركا إلى تقديم تنازلات لروسيا في أكثر من ملف سياسي واقتصادي.

لم تحرك روسيا ساكناً حتى الآن في الرد على تصريحات غيتس حول موضوع التكيف المرحلي. فهي تمتلك الوقت الكافي لذلك طالما أن التنفيذ يتطلب العديد من السنوات.  لكن الرد الروسي على العقوبات الإضافية التي تجاوزت قرار مجلس الأمن لم يتأخر. فقد أوضح الروس أن العقوبات لن تضر بالأمم المتحدة، ولكنها تضر بالمصالح الروسية والصينية، خصوصاً بمصالحهما في إيران. ما يعنى أن إزميلاً قد شق حتى على مستوى الاتفاق الذي تولد عنه القرار 1929، والذي يفسره الروس، بعد صدور العقوبات الإضافية، بأنه، وإن نص على اشتمال العقوبات على أسلحة ثقيلة وهجومية، لا يشتمل على الأسلحة الدفاعية. ما يعنى أن منظمومة س 300 غير مشمولة بالعقوبات، وبأن روسيا قد تتراجع عن تجميد تصدير هذه الأنظمة الدفاعية إلى إيران.

من هنا، فإن التصويت الروسي الصيني على القرار، لم يأت للتضييق على هذه الأخيرة، بقدر ما جاء لتعزية الأميركيين وحلفائهم على الإخفاق الذي أحاق بهم مع الاتفاق الذي توصلت إليه إيران وتركيا والبرازيل حول تبادل التخصيب. وتجاوز القرار من قبل واشنطن وحلفائها كفيل بإعاد إلى المشكلات المطروحة إلى المربع الأول... مراجعة القرار 1929 باتجاه إلغائه، والعودة بالسياسة الروسية الأميركية إلى حال الاحتقان من جديدة. خصوصا، بعد أن اعتبر غيتس نظراءه الروس كمصابين بالسكيزوفرانيا، لجهة تعاملهم بوجهين مع السياسات الإيرانية.

2010-06-21