ارشيف من :آراء وتحليلات

أميركا في أفغانستان: بين "القائد الهارب" و... "القائد الموشك على الهرب"!

أميركا في أفغانستان: بين "القائد الهارب" و... "القائد الموشك على الهرب"!

عقيل الشيخ حسين

"مع رجل مثل ماك كريستال... كل الرهانات رابحة". هذا ما كان يروجه الإعلام الأميركي، بين مدحيات أخرى، عندما عين الجنرال ستانلي ماك كريستال قائداً للقوات الأميركية والأطلسية في أفغانستان.
أميركا في أفغانستان: بين "القائد الهارب" و... "القائد الموشك على الهرب"!
ثم أقيل ماك كريستال وسلمت القيادة إلى الجنرال دافيد بترايوس... وعلى الفور كرت سبحة المدائح : ذكي، حكيم، سياسي محنك، بطل حرب، أهم قائد منذ أيزنهاور وصولاً إلى القول بأنه الوحيد القادر على إنجاح المهمة التي إن لم ينجح في تحقيقها فمعنى ذلك أن أحداً لا يمكنه إنجاحها. وأن تعيينه خطوة كبيرة على طريق النصر.

إلى هذا الحد يوظف الأميركيون يأسهم من إحراز تقدم في أفغانستان عبر المبالغة في تعليق كل آمالهم على رجل كل الدلائل تشير إلى أنه لن يرد السيل عن عبابه، لا لأنه بلا مؤهلات، بل لأن أسباباً موضوعية هي التي ترسم آفاق الهزيمة الأميركية في أفغانستان.
في طليعة هذه الأسباب، وصول تداعيات الهزيمة إلى أواليات التفكير الأميركي الذي بات أسير التخبط والاضطرابات الحادة التي تجلت واضحة في قصة إقالة ماك كريستال.

فقد ركزت حيثيات الإقالة على ألفاظ وحركات مشينة قيل إنها صدرت عن ماك كريستال ومساعديه بحق مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية في مقدمتهم الرئيس باراك أوباما نفسه. لكن مثل هذه الألفاظ والحركات تشكل ظاهرة مألوفة في سلوك المسؤولين في كبريات الديموقراطيات، وهي على كل حال مظهر من مظاهر حرية التعبير المقدسة في الغرب.

فإذا كانت الإدارة الأميركية قد ضاقت ذرعاً بحرية التعبير وبمجرد ألفاظ وحركات يفترض أنها لا تقدم ولا تؤخر إلا إذا انطلقنا من معايير أخلاقية غير رائجة في الديموقراطيات، فمعنى ذلك أن أعصاب المسؤولين الأميركيين قد بلغت حداً خطيراً من التوتر جعلها تقدم على إقالة القائد العسكري وسط احتدام المعركة مع كل ما يشكله ذلك من مس بمعنويات الجنود والشارع الأميركي الذي يبدي تبرما متزايداً بالحروب التي تخوضها إداراتهم في أفغانستان وغيرها.

لكن الأسباب المذكورة ليست غير ذرائع دفع إلى التذرع بها الافتقار إلى شجاعة الاعتراف بالهزيمة، والاستعاضة عن ذلك بالجبن المتمثل بوضع القبعة على رأس كبش محرقة من الوزن الثقيل... على طريق الوصول الإجباري إلى وضعها على رأس كبش محرقة من وزن أثقل.
لا شيء يجري في أفغانستان، منذ بداية الغزو قبل تسع سنوات، وفي غير أفغانستان، وفق ما تشتهيه الإدارة الأميركية وملحقاتها. منذ البداية، تم تصوير الحرب على أنها عملية عسكرية بسيطة تهدف إلى إنزال العقاب بمنفذي الهجوم على البرجين التوأمين. السقوط السريع لنظام طالبان تولد عنه الوهم بالعظمة وبالقدرة على فتح حروب أخرى، لم تفعل، مع السقوط السريع لنظام صدام حسين غير تعزيز الوهم بالقدرة والعظمة.

لكن ما لا تفهمه الإدارات الأميركية هو أن سقوط الأنظمة لا يعني سقوط الشعوب. فبدلاً من النصر والاستقرار وتحول أفغانستان والعراق إلى منارتين على غرار اليابان وألمانيا، على ما راح يروجه التافهون وضيقو الأفق، وجدت أميركا، ومعها حلفاؤها الأطلسيون وغير الأطلسيين، في مستنقع لا مجال فيه لغير التخبط.

فإذا ما اقتصرنا على آخر المعطيات نجد أن خسائر المتحالفين في تصاعد على مستوى القتلى والجرحى. وأن الخلافات قد دبت بين الحلفاء، تارة بينهم جميعاً وبين قرضاي الذي هدد قبل اشهر بالانضمام إلى طالبان. وتارة بين بعضهم البعض، في آلية هددت أكثر من مرة بانفراط عقد الحلف الأطلسي. وتارة بينهم وبين حليفهم الاستراتيجي في باكستان الذي أدى دمجه في الحرب الأفغانية إلى تحوله إلى أفغانستان ثانية وورطة أكبر. ليصل الخلاف، أخيراً وليس آخراً، إلى قمة الهرم السياسي والعسكري الأميركي.

يأتي ذلك في ظل فشل الهجوم "الكبير" عل هلمند الذي قدم على أنه بداية التقدم نحو النصر النهائي. لكن هذا الوهم لم يلبث أن انكشف مع تصريحات قال فيها قادة عسكريون أميركيون بأن مرجة التي احتلوها في إطار ذلك الهجوم قد تحولت إلى "جرح نازف".

ويأتي ذلك في ظل الهجوم الأخير الذي يقولون منذ اشهر بأنهم سيشنونه على قندهار ليكون بدوره بداية التقدم نحو النصر النهائي. هجوم لا يفعلون، منذ الإعلان عنه، غير تأجيله، وسط الحديث عن أيام قادمة "صعبة جداً جداً"، وفق تعبير من بات يسمى بـ "الجنرال الهارب"، ستانلي ماك كريستال.

ووفقاً لآخر المعطيات، وبالتحديد لأن باراك أوباما الذي وصل إلى البيت الأبيض على أجنحة التغيير، دون أن يتمكن من تغيير غير تغيير قائد بقائد، يشدد على أن التغيير ليس تغييراً في الاستراتيجية (أي في الاستراتيجية التي أفضت إلى الوضع الراهن)، يكون القائد الجديد، دافيد بترايوس، جديراً بامتياز بلقب "القائد الموشك على الهرب".

هذا، إذا ما أسعفه الحظ وهرب قبل أن تفاجئه إغماءة كبرى، بعد إغماءته الصغرى التي أسقطته أرضاً، قبل ايام، تحت وابل مساءلته من قبل الكونغرس حول الحرب في افغانستان

2010-06-25