ارشيف من :آراء وتحليلات
أميركا في أفغانستان... "حرب إلى أجل غير مسمى"... أم "حتى الهزيمة الماحقة"؟
عقيل الشيخ حسين
قبل ماكريستال، الذي أقيل لأسباب ـ بعيداً عن هذه الأسباب التفصيلية أو تلك التخريجات ـ تعبر عن حالة التدهور التي يعاني منها المحتلون الأميركيون وحلفاؤهم في أفغانستان، أقيل الجنرال دايفيد ماكيرنال "بسبب الحاجة إلى نهج أكثر جرأة وإبداعاً في مسار الحرب"، وفق ما عبرت عنه المصادر الأميركية. وبعد ماكريستال، عين دايفيد بترايوس، وأحيط تعيينه بهالات من التفاؤل والأمل المستفادة من كفاءات هذا الأخير وتميزاته، خصوصاً في ما يعتبرونه نجاحاً سجل على يديه في العراق عبر تشكيل الصحوات.
لكن العمل الأميركي على تشكيل صحوات أفغانية كان في صميم ما سعى إليه ماكريستال بجرأته وإبداعيته. ويبدو أن تنحيته من منصبه لم تكن نتيجة تطاوله على أوباما وغيره من المسؤولين الأميركيين، بقدر ما كان نتيجة لسلاسل من الفشل في طليعتها الفشل الذي مني به، قبل أسابيع قليلة، اجتماع اللويا جيرغا (زعماء القبائل الأفغانية)، والذي كان الهدف الأساسي منه هو استيلاد صحوات أفغانية عبر شق طالبان، تمهيداً لإجراء مصالحة وطنية مع المنشقين.
وبالطبع، فإن الفشل في تشكيل قوة أفغانية تحارب في أفغانستان لمصلحة أميركا العاجزة عن تحقيق تقدم بالوسائل العسكرية الأميركية والأطلسية كان، قبل ولادة فكرة الصحوات الأفغانية، في أساس فكرة تشكيل جيش أفغاني من 400 ألف مقاتل بتكاليف تقل بآلاف المرات عن تكاليف مباشرة الحرب من قبل الجيوش الغربية بنفسها.
وبالتوازي مع الفكرتين، سبق للأميركيين أن أدخلوا باكستان كطرف استراتيجي في حربهم الأفغانية. لكن ذلك لم يُفض إلا إلى المزيد من الفشل الذي وسع من دائرة التورط الأميركي وهدد بنشوء وضع باكستاني يزيد خطورة عن خطورة الوضع الأفغاني.
كما أن الفشل في لعب الورقة الباكستانية لعب دوراً مهماً في تفاقم الخلافات التي أفضت إلى تنحية ماكريستال. ومع هذا، يبدو، أن التعويل على باكستان هو أهم ما تحمله جعبة بترايوس. ففي الجلسة التي قدم فيها شهادته أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي، وهي الجلسة التي تعرض خلالها للإغماء، تحدث بترايوس عن ضرورة تطوير "الشراكة" الاستراتيجية مع الباكستانيين كـ "مفتاح" للعمل في المراحل المقبلة.
واقترح بترايوس توزيعاً للأدوار على الأساس التالي: "هم يقومون بالقتال ونحن نقوم بدعمهم بالمعدات وبالتمويل...". بكلام آخر، الكلام عن بقاء استراتيجية أوباما في الحرب الأفغانية دون تغيير، يعني استمرار التخبط الأميركي في مسارات الفشل ذاتها.
دون تغيير، في الظاهر فقط، فالتعديلات التي يصفونها بالتكتيكية هي استراتيجية بقدر ما تمس استراتيجية أوباما في الصميم. فمن النقاط البارزة في استراتيجية أوباما تعهده بالانسحاب من أفغانستان في منتصف صيف العام 2011. لكن هذا التعهد كان قد بدأ بفقدان قيمته مع التحفظات التي أبداها ماكريستال على إمكانية تنفيذه التي ربطها، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، في تقرير سري، بإمكانية تصفية طالبان خلال الأشهر الإثني عشر المقبلة.
مهلة شارفت على الانتهاء ووضع الأميركيين في أفغانستان يتطور من سيئ إلى أسوأ، في وقت تزداد فيه طالبان قوة على قوة.وما قاله ماكريستال بهذا الخصوص، يقوله الآن بيترايوس مع تعديلات لا تغير شيئاً في واقع الحال. فهو يعتقد أن الالتزام بالموعد الذي حدده أوباما لبدء الانسحاب في تموز/يوليو 2011، يحتاج إلى بعض المرونة.
معنى الكلام أن ما يعتقده ماكريستال وما يظنه بترايوس هو عين ما يعلمه أوباما نفسه. وهو خصوصاً عين مشيئة المحافظين الجدد التي عادت إلى الانتعاش في ظل تخبطات الديموقراطيين بين هزائم أميركا العسكرية والسياسية وأزماتها المالية وبقعتها النفطية والأعاصير المحيقة بها من كل حدب وصوب.
صحيفة واشنطن بوست وصفت استراتيجية أوباما، بما في ذلك شقها المتعلق بالانسحاب، بأنها خرقاء وحمقاء ويشوبها الخلل. وهذا غيض من فيض التهكمات التي تنهال على أوباما واستراتيجيته في وقت تتراجع فيها شعبية الحرب، جارفة معها شعبية أوباما، كنتيجة طبيعية للهزائم التي تزداد مرارة على الأرض.
والمفارقة أن انسداد الأفق أمام الأميركيين في الحرب الأفغانية لا يدفعهم إلى التعقل ومحاولة الخروج بأقل الخسائر. بل إلى نوع العناد والمكابرة المألوف عند أمثال بوش ممن يشفع لهم كونهم أطلقوا حروبهم في وقت لم تكن الولايات المتحدة قد دخلت في عنق الزجاجة بعد.
وعند أمثال كيسنجر الذي صرح مؤخراً بأن من الضروري "إعداد الجمهور الأميركي لحرب طويلة في أفغانستان". أو عند غيره من المتشددين الذين يطالبون اليوم بحرب مفتوحة لأجل "غير مسمى حتى تحقيق النصر"...لكنهم، وبرغم معرفتهم بحساب الاحتمالات والمفاجآت والتغيرات، لا يقولون "النصر أو الهزيمة الماحقة" لخلو قاموسهم من مفهوم "الشهادة"، ولمعرفتهم الصادقة بأنهم بلا قضية من النوع الذي ينسجم العمل من أجلها مع مفهوم الشهادة.