ارشيف من :ترجمات ودراسات

ترويض إسرائيل ومظلات الهبوط الآمن

ترويض إسرائيل ومظلات الهبوط الآمن


ابراهيم عجوة
المصدر:  موقع الجزيرة/ وجهات نظر

المراقب لمجريات الأحداث في الشرق الأوسط وشكل التعاطي الدولي معها يستطيع أن يلمس بوضوح أن العالم يتجه إلى تجميد المشكلات أو حلها أو تسكينها، بما يعطيه فرصة التقاط الأنفاس بعد أن أصيب النظام الدولي بنكسات إستراتيجية استثنائية على الصعيد الاقتصادي والسياسي والجيوبوليتيكي.
فدورة النهب الإمبريالي استنفدت بوحشيتها أغلب المخزونات الإستراتيجية القابلة للنهب، وأغرقت الأسواق بمنتجاتها بحيث أصبحت فوائض الإنتاج غير قابلة للاستهلاك سواء لجهة ضعف المستهلك المستهدف والمستنزف، أو لجهة التنافس وفيض المنتج الذي أدى إلى كساده.
وعلى الصعيد السياسي لم تعد الإمبريالية قادرة على ترويج منتجها السياسي سواء بشكل مباشر أم عبر وكلائها نتيجة ارتفاع منسوب المشاركة السياسية والوعي السياسي لدى الشعوب الناتج عن ثورة المعلومات، فقد أنتجت هذه الثورة قدرة عالية على التمييز لدى الجمهور، مما أفقد النخب الوكيلة قدرتها كما أفقد أصحاب الأجندات المباشرين أيضا قدرتهم على صياغة وعي الجماهير.
فهذه الثورة التقنية باتت مفتوحة للجميع، على الرغم من كل المحاولات الجارية لتطويعها، فقد خرجت عن الطوق ولم تعد حكرا على أحد، ولم يعد بمقدور أحد أن يروضها لصالحه فقط. أما على المستوى الجيوبوليتيكي فقد بدأت لدى نخب العالم المعاصرة مراجعات التاريخ المزور والجغرافية المزورة والحدود المفتعلة في الحروب العالمية، مما جعل اللعب الجيوبوليتيكي أكثر صعوبة منه في السابق، كما أن العبث بالحدود والديمغرافية والتاريخ قد وصل حد الإشباع وما عاد ممكنا ممارسة المزيد منه موضوعيا، كما لم يعد ممكنا تسويقه في المراجعات الجارية.
"إسرائيل" بوصفها أحد منتجات هذا النظام تجري عليها ذات عملية المراجعة، فقد ولد فيها مؤرخون جدد يراجعون مدى صدقية الرواية الصهيونية للتأسيس وللنكبة الفلسطينية، وولد فيها كتاب ومفكرون ما بعد الصهيونية، كما ولّدت متغيرات الواقع عقلانيين سياسيين باتوا يقرون باستحالة استمرار الحركة الصهيونية في السير على نفس الإيقاع ونفس الأهداف الكبرى الموهومة لدى الآباء المؤسسين.
طبعا هذه المراجعات العالمية والمراجعات الصهيونية ليست وليدة صحوة أخلاقية إمبريالية أو صهيونية ولكنها وليدة مآزق موضوعية بنيوية سيتحدد عمقها وتحولها النوعي بقدرة الأطراف المتناقضة والمتصارعة حولها على الاستفادة من المأزق وتجميع القوة لتغيير قواعد اللعبة.
"إسرائيل" هي في الحقيقة منتج أيديولوجي لكنها سعت دون نجاح لتتطور إلى دولة طبيعية من خلال الابتعاد المستحيل عن منطق الحركة المؤسس، مما أدخلها في تناقضات صارخة كانت محور الحوار الدائر بين نخبها منذ بداية الستينيات وحتى يومنا هذا.
وقد تركز هذا الحوار العقيم موضوعيا حول إمكانيات تطور "إسرائيل" بخطوات حاسمة نحو منطق الدولة وفكرتها وليس بقائها تكوينا اجتماعيا لحركة في طور التشكل والنشوء. أما المربك للمراجعين والمؤرخين الجدد، والعقلانيين السياسيين والمراكز الدولية الداعمة لـ"إسرائيل"، والذي لن يتغير إلا نتيجة لصراع حقيقي، فهو أن الخيارات الموضوعية للدولة لا تزال محمولة على رؤى وتصورات أيديولوجية وليس على رؤية عقلانية للدولة الحديثة.
فلا تزال إسرائيل بهذا المعنى بعيدة عن القيم المعيارية والأخلاقية لعقلانية الدولة الحديثة، مما يدفع العالم نحو محاولة إنقاذها من خلال ترويضها لحمايتها وحل مآزقها البنيوية.
المأزق الديمغرافي: "إسرائيل" لم يتنبه منشئوها أو مؤسسوها إلى استحالة قدرتها على العيش التاريخي في بيئة معادية واسعة وعلى حساب هذه البيئة، فإذا عجزت إمبراطوريات عبر التاريخ عن العيش في بيئة معادية فكيف بكيان هش وظيفي أن يملك القدرة على ذلك، مهما امتلك من مقومات القوة. لقد أعمتهم معادلة القوة عن الفرق بين فرض الذات بالقوة مرحليا والعيش "على حد السيف" كما يرغب الصهاينة بتسميته، وبين العيش التاريخي بمعنى الاستمرار كظاهرة طبيعية تاريخية في المنطقة.
المأزق الديمغرافي كان أحد أجهزة الإنذار المبكر للكيان وصنّاعه عندما أفاقوا على خمسة ملايين فلسطيني يعيشون من البحر إلى النهر، ويعيشون بين القهر والقهر، وعلى استحالة ديمومة هذا الوضع، وبدأت ظواهر الانتفاضات والمقاومة بكل أشكالها مما يكفي لتغطية المشهد الإعلامي والسياسي برمته بشقيه الرسمي والشعبي، وباتت تفرض أجندتها على كل المحافل.
فكان الحل بالقمع البشع وغير العقلاني والفاقد للتوازن للشعب الفلسطيني، وبالاستيراد الديمغرافي غير الكافي والملغم بمتفجرات التناقض الثقافي والعرقي والديني، مما جعل المشهد غير قابل للتصديق بل وفارض للمراجعة حتى لا يكون الانفجار الموضوعي واحتمال التدمير الكلي للمشروع الصهيوني.
المأزق الإعلامي: ثورة المعلومات وتقنياتها لم تعد تسمح بالستر والمعالجات والجراحة البشعة والبتر تحت الطاولات وفي السراديب كما كان يحصل في بدايات ومنتصف القرن المنصرم عندما تم تأسيس الكيان الصهيوني. فقد ظهرت بشاعة المعالجات الصهيونية لمآزقه، ولم تعد مقنعة لجمهوره وغير قابلة للتبرير أمام الرأي العام العالمي رغم التطور النوعي في تقنيات صناعة الرأي العام التي أبدعتها آلات الدعاية الإمبريالية والصهيونية.
وقد جاء تقرير غولدستون الأخير حول الحرب على غزة تعبيرا صارخا عن عدم إمكانية الاستمرار في لعبة الستر، بل طرح ضرورة إخضاع "إسرائيل" لمنطق الدولة بما يمكّن من محاسبتها ومحاسبة مسؤوليها، ولم يعد ممكنا سترها كما حصل في مجازر دير ياسين وكفر قاسم والدوايمة وغيرها من المجازر التي لا تحصى ومارستها الحركة الصهيونية دون حسيب أو رقيب.
المأزق الإستراتيجي: تميز الكيان الصهيوني بامتلاكه وسائل الردع الهائلة بدءا بالسلاح النووي، وليس انتهاء بالتفوق الجوي، والقدرة على نقل المعركة من خلاله إلى أرض الغير، والقدرة على تجريف قوة الخصوم في زمن قياسي. فهذا الكيان ورغم عجزه التاريخي عن القدرة على تغطية التوسع الجغرافي ديمغرافيا، فقد كان قادرا على الاحتفاظ بالأرض من خلال ردع الخصوم عن استعادة الأرض بالقوة.
التطور الهائل في منظومات الصواريخ أبطل عمليا القدرات الصهيونية أعلاه، فلم يعد ممكنا نقل المعركة إلى أرض الغير وإبقاء "أرضه" خارج المعركة، ولم يعد قادراً على حسم المعارك في زمن قياسي نتيجة تبني الخصوم إستراتيجيات الردع الديناميكي وليس من خلال الحروب التقليدية. وقد تبدى هذا الأمر بوضوح من خلال حرب يوليو/تموز في لبنان، وبشكل نسبي في حربه على غزة والصمود الهائل الذي أبداه الشعب الفلسطيني في المواجهة.
المأزق الجيوبوليتيكي: نقل الحدود وتصحيحها على إيقاع حركة القوة، والتجريف الديمغرافي بالقمع والتضييق، وقضم الأراضي بالاستيطان والمصادرة، وشل إرادة الخصوم من خلال الترهيب بالقوة، والتضليل وصناعة الرأي العام من خلال الدعاية والأيديولوجيا، كلها وسائل استنفدت ممكناتها القصوى وبات الكيان قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس على كل الصعد، ولم تعد تساعده كل المستويات الأخرى المستنقدة أصلا وبات يعبر طور الكهولة السياسية والهشاشة الإستراتيجية رغم كل المنشطات والعقاقير التي تمنح له من قبل الراعي الإمبريالي.
الرغبة العالمية في ترويض إسرائيل: لهذا نشأت الرغبة الدولية في إيجاد إما مظلة هبوط آمنة لهذا الكيان، أو ميتة شريفة إذا صح التعبير. لكن هذا لا يعني على الإطلاق التسليم بالفشل النهائي للمشروع ولا التسليم بلحظة الموت، ولكن التسليم باستحالة الحياة ضمن هذا النسق.
من هنا بدأت الدعوات إلى التسويات مع الفلسطينيين التي رغم بؤسها في المستوى الفلسطيني فإنها تشكل بالنسبة للكيان تراجعا إستراتيجيا عن أهدافه وطموحاته التي ترسمت غداة إنشائه. ومن هنا بدأت الدعوات الأميركية القائلة بأن التسوية مصلحة عليا أميركية، وبأن أميركا ترغب في حماية الكيان الصهيوني من نفسه، وتعني بذلك مأزقه البنيوي. طبعا دون فصل هذه التوجهات عن الرغبة الأميركية في بناء نظام إقليمي على مقاساتها، يستحيل مع بقاء المأزق الصهيوني في شكله الراهن داخل هذا النظام.
الرغبة الأميركية وتجلياتها ما زالت في بداياتها وتبدو خجولة ومترددة، ومرتبطة ارتباطا وثيقا في مستوى تعبيرها بقدرتها على إيجاد حلول للمآزق بأقل الخسائر على كيانها المصطنع وأداتها الإستراتيجية، لذلك نراها في كل تصريحات مسؤوليها وفي كل ممارساتها الإستراتيجية والتكتيكية معنية باستمرار التقليل من الهلع الصهيوني من هذا التحول بتأكيد حرصها على بقاء هذا الكيان وإستراتيجية العلاقة التحالفية الأبدية معه. والتعبير عن تناغم مصالحها ومصالحه، وهي حقيقة موضوعية وليست مناورة.
الرغبة الأوروبية وتجلياتها لا تقل عن الرغبة الأميركية وإن كانت تختلف في عمقها بدافع الرغبة في تحقيق اختراق في نظام الأمن الإقليمي قيد التشكل، وترسيم حصتها فيه التي وقفت أميركا وشريكها الكيان الصهيوني عائقا في طريقها سواء في عمليات التسوية ونتائجها أو في الحروب ونتائجها باستثناء دور شاهد الزور.
تتجلى الرغبة الأوروبية في الاستفادة من هذا المأزق الإستراتيجي في القيام بدورها سواء ما يتعلق بترويض الكيان الصهيوني أو ترويض الممانعات العربية. فعلى صعيد ترويض الكيان بات واضحا أن الدور الأوروبي يسعى لأخذ دوره في معادلة الترويض بما يوفر له مكتسبات على الصعيد العربي، ومكتسبات في عملية الترويض الآمنة التي يسعى لها للتخفيف من صدمة مأزق الكيان الصهيوني، فها هي أوروبا تستنفر رأيها العام في مواجهة الصلف الإسرائيلي والاستيطان والمجازر، كما تستنفر نخبها السياسية والأكاديمية والشعبية في حركات تضامنية تحت سقف إستراتيجيتها المذكورة أعلاه بما يحقق لها هذا الخرق في نظام الأمن الإقليمي.
روسيا بدورها تسعى إلى أن تحقق اختراقاً طالما سعت إليه منذ العهد القيصري يتمثل في الوصول إلى المياه الدافئة. وتسعى من خلال المأزق التاريخي المشترك للإمبريالية والصهيونية في مؤازرة بعض دول الإقليم للنفاذ نحو المياه الدافئة، وتعمل جاهدة لتشكيل مظلة هبوط ومدرج لكل من إيران وتركيا وسوريا من خلال جملة من التحركات الدبلوماسية والاتفاقيات الأمنية والتسليحية والتجارية والاقتصادية مما يؤهلها لتحقيق اختراقها الإستراتيجي.
أما على المستوى الإقليمي فقد بات واضحا للقوتين المركزيتين إيران وتركيا أن البيئة الإستراتيجية الدولية باتت تتيح لهما فرصة ترويض "إسرائيل"، وأنها لم تعد بفعل مأزقها ومأزق رعاتها الطرف الذي لا يمكن الاقتراب منه، أو الطرف الوحيد المحدد للإستراتيجيات في المنطقة، وأن الدول المركزية في الإقليم هي محدد وشريك في أي نظام إقليمي يمكن تشكيله.
ومن هنا باتت الهجمة التركية المركزة على الكيان مستفيدة من البيئة الإستراتيجية الدولية تحقق نجاحات واضحة سواء في كسب الرأي العام العربي، أو في النجاح على صعيد تأكيد دورها على حساب الدور الإسرائيلي المتعنت والمتفرد والعنجهي طوال الحقبات السابقة. طبعاً ليس خافياً التغاضي الغربي عن الممارسة السياسية التركية بل هو يرى أنه بالإمكان التفاهم معها وتفهمها.
أما إيران التي ما زال خطابها لا يحظى بنفس مستوى جاذبية الخطاب التركي لدى الغرب وأميركا بحكم التناقضات في رؤى معادلات القوة التي يمكن احتمالها وفي رؤى قواعد اللعبة التي يمكن للغرب أن يقبلها، فإنها (إيران) قد رفعت من خطابها الترويضي إلى حد الاشتباك المسلح من خلال تحالفاتها، وإلى حد التلويح باستثمار المأزق الصهيوني والغربي في إزالة إسرائيل من خريطة الشرق الأوسط.
الرغبة العربية وتجلياتها ما زالت معاقة بفعل غياب مركز القرار الواحد في المنظومة العربية، التي ما زالت تعيش تناقضاتها المترتبة على نهايات القرن الماضي وبسبب كونها هي المجال الحيوي المتاح للقوى الدولية والإقليمية.
لذلك اقتصر تعاطيها مع البيئة الإستراتيجية الدولية والتوجه الدولي لبناء نظام الأمن الإقليمي وترويض الكيان الصهيوني ليتحول إلى دولة طبيعية في المنطقة على ما سميت بالمبادرة العربية، التي ولدت ميتة نتاج غياب عنصر القوة الحامل لمثل هذه المبادرة رغم هشاشة مكوناتها وانخفاض سقفها على صعيد الحقوق العربية والفلسطينية.
ليس خافياً أن أي ترويض للكيان الصهيوني يجب أن يرافقه ترويض لكل قوى الممانعة والمقاومة العربية والفلسطينية، ويبقى السؤال من يمكن أن يستفيد من هذه البيئة الإستراتيجية؟ ومن يملك إرادة الصراع ويستطيع تجميع قواه الكامنة التي تمكنه من الاستفادة من هذه البيئة بما يتيح له تغيير قواعد اللعبة إستراتيجيا لصالحه، مؤمنا بنظرية ألا أحد يمكن أن يخوض معركتك، بل أنت من يجب أن يخوضها؟
ويبقى هذا السؤال معلقا لتجيب عليه الأطراف، مدركين أن إرادة الصراع هي الحكم الأخير.


2010-07-06