ارشيف من :آراء وتحليلات

كرة القدم... عندما تتحول إلى قضية!

كرة القدم... عندما تتحول إلى قضية!

عقيل الشيخ حسين
يبدو من المؤكد أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بلا قضية. ويبدو من المؤكد أيضاً أن القضايا تتعدد بتعدد أنفاس الخلائق. وتبعاً للوزن النوعي لكل مخلوق، إذ هنالك قضايا من وزن البعوضة وقضايا أخرى من وزن بعرض السماوات والأرض.


والقضايا تندرج بشكل أو بآخر في عداد القيم. أي تلك الأمور التي يحبها البشر ويتعلقون بها ويدافعون عنها، ويقدمون من أجلها تضحيات قد تكون صغيرة أحياناً، لكنها في أحيان أخرى تصل إلى حد التضحية بالحياة.

ولا جديد في القول بأن كرة القدم - ونحن نعيش الآن أجواء اختتام دورة كأس العالم - هي قضية من القضايا. وقد يصح الزعم بأنها، بالنسبة للكثيرين، قضية كبرى، بل أم القضايا وأكبرها.

هي كذلك مثلاً بالنسبة للاتحاد العالمي لكرة القدم (فيفا) التي يقال بأن حجم أرباحه قد وصل في هذا الموسم إلى أربعة مليارات دولار. منها ملياران كثمن لحقوق البث المباعة للفضائيات وغيرها من وسائل الاتصال. وبالنسبة إلى ما لا يحصى ممن تروج تجاراتهم وصناعاتهم بفضل هذا الموسم: أقمشة للأعلام، قمصان بألوان الفرق المتنافسة، أحذية، مفرقعات، رحلات جوية، فنادق، مطاعم، متاجر، إلى آخر السلسلة.

وهي كذلك لدول كالدول التي تفوز بشرف استقبال الألعاب. إفريقيا الجنوبية دخلت، بفضل إجراء الدورة الحالية فيها، إلى كل بيت، وحظيت جراء ذلك بمسموعية تحسد عليها على المستوى الدولي مع قابلية هامة للتوظيف السياسي.

وكذلك الأمر بالنسبة للفيفا التي تحولت إلى قوة سياسية وازنة على الصعيد الدولي، يخطب ودها السياسيون، وتتمتع تبعاً لذلك بقدرات حقيقية على رسم سياسات الدول. والفيفا كما هو معروف يتزعمها أشخاص تحركهم إرادات أشخاص وجهات لا تضع قضية زامبيا أو الكاميرون في صميم اهتماماتها.

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لكل هؤلاء الذين تعود عليهم كرة القدم بكل هذه الفوائد المادية والمعنوية المباشرة وغير المباشرة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو حول هذه الجماهير الواسعة التي ـ من أغنى بلد في العالم إلى أفقر بلد في العالم، وعلى اختلاف الانتماءات السياسية والاجتماعية والثقافية والمهنية والطبقية، إلى آخر السلسلة ـ تحتشد كل هذا الاحتشاد، وتعصف بها الحماسة كل هذا العصف، على إيقاع الأقدام والأجسام المتراطمة حول هذه الكرة التي يناضل كل فريق لإدخالها في مرمى الفريق الآخر.

ما هي مصلحة كل هذه الجماهير التي ينوء أكثرها تحت أثقال المشكلات الاجتماعية المتراكمة في أن تنسى واقعها ليقول بعضها، في لبنان مثلاً، "نحن كألمان" أو في بنغلادش، "نحن كهولنديين"، مانحين بذلك صك تصديق للقائلين بأن الرياضة توحد العالم؟ أو لتخرج إلى الشوارع لتملأ الفضاء، من أقصى العالم إلى أقصاه، بالهتاف والزغاريد وزعيق أبواق السيارات وأصوات المفرقعات، وليطلق بعضها النار من الأسلحة الرشاشة، بل وحتى من فوهات المدافع، ابتهاجاً بهذه الركلة أو تلك؟

علماء النفس والاجتماع لهم آراء جافة في تحليل هذه الظواهر. لكن بعضهم، والحق يقال، يقدمون أحياناً تحليلات غنية بالدسم. كتلك التي تصل إلى نتيجة مفادها أن كرة القدم هي مظهر عصري من مظاهر وثنية يتربع على عرشها إله كروي وتتحول ملاعبها إلى معابد يحتشد فيها "المؤمنون" ويمارسون فيها ما يمارسونه من طقوس تتراوح فيها الحركات والمشاعر بين غمرات الفرح الطاغي وبين الفجيعة والمأساة.

لقد سجلت الكاميرات مشاهد مهولة في شوارع المدن الألمانية للملايين من المشجعين وهم يذرفون دموعاً حرى على فريقهم الذي لم يفز بغير الحسرة. والمشاهد نفسها سجلت في الكثير والكثير من شوارع العالم الأخرى، مقابل مشاريع الابتهاج والنصر في شوارع أخرى.

توحيد للعالم تحت مذبح الكرة، لكنه أيضاً خلق لمظاهر انقسام وشقاق وكراهية بين الشعوب. الجميع يتذكر قصة مصر والجزائر وقصة الحرب بين كوستاريكا وهندوراس التي ذهب ضحيتها آلاف القتلى والجرحى. إضافة إلى آلاف القصص عن الحروب التي تنشب داخل الملاعب بين اللاعبين ومناصري اللاعبين والتي غالباً ما ينجلي غبارها عن قتلى وجرحى.

ويظل السؤال مطروحاً حول الأسباب العميقة التي تفسر كل هذا العشق لهذه اللعبة. الإحباط المعمم وحاجة المحبطين لإحساس بالوجود يشتقونه لأنفسهم عبر التماهي باللاعبين؟ الهزائم المريرة في حقول الحياة اليومية وحاجة المهزومين لانتصار يستشعرونه على أرض الملعب؟ كل هذا وغيره ممكن.

لكن الأكيد، في زمن أكثر ما يتبجح فيه الناس بالعقل والعقلنة، أن عالم اليوم، من خلال كرة القدم، والآلاف غيرها من الظواهر والاهتمامات، يفسح المجال واسعاً أمام اجتياح واسع النطاق يتعرض له العالم من قبل اللاعقل. وكل ذلك وسط تهليل المهللين ومباركات المباركين وترانيم كهنة الديانة الوثنية العصرية.

والأكيد أيضاً، في زمن الإبداع في الاستثمار والاستثمارات، أن الاستثمار في اللاعقل، من خلال كرة القدم، والآلاف غيرها من الظواهر والاهتمامات، هو باب من أوسع أبواب الاستثمارات.

2010-07-12