ارشيف من :آراء وتحليلات

العملاء الجواسيس - علةٌ أم معلول ؟!

العملاء الجواسيس - علةٌ أم معلول ؟!

لؤي توفيق حسن* 

لو كان عدد المصابين بمرض "انفلونزا الخنازير" يقل عما جرى اكتشافه من عملاء خونة، لاعتبرت الجهات المعينة بأننا أمام جائحة مرضية تستحق أن تعلن بسببها حالة "طوارئ صحية"، متخذة إجراءات متشددة لمنع انتشار الوباء. في حالتنا ينتابنا قلق يطغى على الرضا عندما يجري الكشف عن عميل جديد، وذلك تحت وطأة سؤال ملح: من التالي؟!!!. نعم من التالي.. فنحن أمام حالة فقدان مناعه وطنية، وبعد ذلك لنسمه ما شئنا : "إيدز" أخلاقي.. قيمي .. سلوكي.

وينتابنا قلق أكثر وأكثر عندما نقابل هذا المشهد بحالة عدودنا المنيع من هذه الزاوية بالتحديد. لا تنقصنا الجرأة، ولا الثقة كيما نعترف بهذا. ومن لا يستسيغ القول فليراجع الأرقام وهي تصفعنا عندما نجد بأن عدد اليهود الذين عملوا لصالح المخابرات العربية مجتمعة يساوي الصفر! فيما مجموع ما جرى اعتقالهم خلال الأربع سنوات الأخيرة يفوق بمرات أعداد الجواسيس الذين عملوا لصالح الصهاينة منذ بداية الحرب العالمية الأولى حتى صيف 2006!!.

بين الأمس واليوم

يعيدنا الحديث عن الحرب العالمية الأولى إلى ملفات شبكات التجسس التي نشطت في لبنان آنذاك. وأصحابها من اليهود الذين عملوا لصالح بريطانيا في سبيل الحصول من هذه الأخيرة على وعد بوطن قومي لهم، كما الحال أصبح فيما بعد.

لعل المشترك الوحيد بين حالات التجسس في ذلك الماضي وبين شبكات التجسس التي نشهدها هذه الأيام أنهما خرجا من لدن الفساد الذي أدى إلى انهيار "السلطنة العثمانية" والذي ينخر الآن في الكيان اللبناني.

أحد الامثلة، آلتر صموئيل ليفي، وهو يهودي أمريكي تعرّف على جمال باشا بداية 1915 وكسب ثقته واستطاع عبر ذلك الحصول على معلومات هامة لعبت دوراً أساسياً ـ كما قيل ـ في هزيمة القوات التركية آنذاك. ولما انكشف أمره فرَّ إلى القدس. لكن هناك ألقى القبض عليه "رئيس بوليس القدس عارف بك ابراهيم". ولقاء إخلاء سبيله عرض على هذا الأخير مبلغ 20 ألف دولار، وهي ثروة ضخمة بعملة ذلك الزمان. لكن عارف المذكور رفض الرشوة. ونقله إلى الديوان العرفي "وتلقى وصلاً باستلامه". وفق ما يقول في مذكراته. بعد أربعة أشهر، كان العثمانيون قد غادروا ويصادف ليفي "يدخن النارجيلة في إحدى مقاهي المرجة بدمشق"!!. وعندما سأله أخبره بأن إطلاق سراحه جرى مقابل "اربعمائة ليرة ذهبية بعدما قام المحقق باتلاف الوثائق"!!.

مثال آخر، الجاسوس اليهودي ابراهام واتنبرغ الذي تمكن من الحصول على وثائق من "القيادة التركية الخاصة بخطة الدفاع عن بيروت" بواسطة أحد قادة اركان الحرب ويدعى "عثمان بك". لقد استطاع الجاسوس المذكور الفرار بعد إلقاء القبض على شبكته، وبينما هو يتجول في بيروت متخفياً بزي بدوي قام شابان بإلقاء القبض عليه هما خضر المغربي ومعروف الداعوق، لكن اعتقاله لم يدم طويلاً حيث أطلق سراحه مقابل رشوة دفعها لضابط تركي كبير اسمه "اسماعيل بك".

على الرغم من التكهنات التي أصابت الدولة العثمانية. هنالك ميزة كما نلحظها في المثال السابق وهي أن اليهود الصهاينة لم يستطيعوا خلافاً لحاضرنا ان يثقوا بلبناني ليجندوه في شبكاتهم. أما الوحيد الذي جرت إدانته في قضية "شبكة روزا مردخاي" ويدعى أحمد الصاوي فقد ثبت بأنه كان بريئاً وذهب ضحية غباء "البوليس العدلي" التركي الذي حقق معه. وبعد ثلاثة أشهر من اعدامه تم اكتشاف الشبكة المذكورة على يد "مدير الاستعلامات الألمانية" - أي (المخابرات) - واسمه "كارهوبل". وما أكثر ما ساهم هؤلاء في كشف شبكات التجسس التي غفل عنها الأتراك!!.

ما أشبه الأمس باليوم. إلا من فارق بسيط!. في الماضي كانت القناصل تقدم التسهيلات للجواسيس من (جنسياتها) وتحت مسميات مختلفة: مستشرقين ـ علماء نبات ـ جيولوجيين ـ جغرافيين ... إلى آخره. في يومنا هذا تقدم العديد من السفارات تسهيلات لانتقال العملاء من (اللبنانيين) إلى "إسرائيل" وبالعكس لتلقي التدريب ونقل المعلومات وما إلى هنالك. وقد طرحت جريدة "الأخبار" (عدد 17 نيسان 2010) الامر بتفاصيله مع الأسماء، ناقلة عن مسؤول أمني لبناني أن التنسيق بين الأجهزة الامنية الغربية والاسرائيلية فاق التوقع. "ويرى المسؤول ذاته أن ثمة احتمالين لما يجري في سفارات بعض الدول، فإما أن الاستخبارات الإسرائيلية تمكنت من تجنيد موظفين داخل هذه السفارات.. او ثمة قرارات صادرة من أعلى المستويات في هذه الدول لتسهيل عمل الاستخبارات الإسرائيلية في لبنان". ترى ماذا فعلنا حيال كل هذا!

العمـلاء إلى تـزايـد!

ليس مفروضاً أن يميل الخط البياني لأعداد العملاء الى التصاعد. إذا كان الجاري هو فعلاً (تفكيك) الشبكات، لهذا يصبح مشروعاً السؤال: لماذا عدد العملاء إلى تزايد؟!. ان هذه الظاهرة من الجواسيس العملاء هي نتيجة وليست السبب. أو انها المعلول وليست العلة. كانت العلة في أمسنا. المأزق الذي وصلت إليه الدولة العثمانية. في حاضرنا لم يتغير شيء. إذ ما زال الامس يسكنه ولكن بتسميات جديدة: "مأزق الكيان".. "أزمة النظام اللبناني". إلخ.... وفي ظل هذا لا مكان لثقافة انتماء جامع تسمح بأن يطرح تصور مشترك لمسائل الحاضر، ولتحديات المستقبل. كيف لا. وليس لدينا فهم مشترك للماضي بالأساس. فنحن البلد الوحيد في العالم الذي ليس لديه تاريخ متفق عليه. حتى بتنا نستورد قراءة الآخرين لنا. إذ لم ننس بعد كتب التاريخ التي جرى توزيعها في بعض المدارس ـ الخاصة ـ التي تتحدث عن القضية الفلسطينية بنفس الطريقة التي تدرسها المعاهد التعليمية في "إسرائيل"!!!.

وفي ظل هذه المفارقات بتنا البلد الوحيد في العالم الذي تنتصر مقاومته جالبةً له الحرية والمنعة والعزة ومع ذلك فينا من يضعها داخل قفص الاتهام!.
كما وإننا الكيان الفريد الذي فيه من يسعى إلى التخلض من مواقع قوته، لكشف مواقع ضعفه على الرغم مما يحمله هذا من أخطار. لا لشيء وإنما لأن هذه القوة تثير (رهاباً نفسياً) عند بعض تشكيلات الموزايك اللبناني!!.

ولعلنا الحالة الأوحد في العالم التي ترفض المقاومة ان تجعل انتصارها جسراً للإمساك بالسلطة هي وحلفائها، ومع ذلك فهي لا تسلم من سهام شركائها في الوطن.. وفي المصير!!.

إن الجانب الأمني ـ على أهميته الفائقة ـ ليس كافياً في هذا الواقع لتطويق ظاهرة تفشي العملاء! هذا بالرغم من أن قبضة الجانب المذكور لم تأخذ مداها بعد. كما وان الشق القضائي منزلاً العقوبة التي يستحقها هؤلاء الجواسيس الخونة ليس دواءً ناجعاً. ومع ذلك فلم نرَ حتى الآن عقوبة واحدة طالت اسماً من قائمة العملاء الطويلة!!. مسألة بدأت تطرح أكثر من علامة تعجب. وبين هذه ومشهد استهداف المقاومة، يتنامى قدر من مشاعر التحدي والاستفزاز لدى قوى وطنية لبنانية واسعة، لا بل ان الحديث أخذ يعلو لا سيما بين بعض الأسر التي أُصيبت بشهيد، أو جريح مُعاق، أو مفقود. أخذ الحديث يتجه نحو الاقتصاص من أي عميل من خارج دائرة القضاء!. لا شك بأن هذا الحل بقدر ما يحمل من تجاوز صارخ بل ورعونة، فإنه يعبر عن أزمة ثقة لا يحلها إلا نيل المجرمين لعقابهم وفقاً لنصوص القانون.

لكن جوهر القضية يتمحور حول اسئلة حاسمة هي كالتالي:

ـ هل هناك منظومة تروج لثقافة العمالة؟

ـ هل هناك أيدٍ خفية ترعى العملاء طلقاء أو معتقلين؟

ـ هل هناك "لوبي" في الداخل يتناغم مع الخارج في عملية تطويق المقاومة بدء من التجسس، مروراً باستدراج اليونيفيل لأدوارٍ أمنية - استطلاعية، وليس انتهاءً بما يسمى (المحكمة الدولية)؟!.

إذا كان الجواب على كل ما سبق : نعم. فإن السؤال المركزي الذي يطرح نفسه ما هو الحل؟!.
بالتأكيد الحل في بيروت.. لا من "الطائف" ولا من "الدوحة"....

*كاتب من لبنان

2010-07-12